محمد يسين: "حوار مع الحروف"

محمد يسين: "حوار مع الحروف" محمد يسين ومجموعته القصصية "حديث الجمجمة"
ذات يوم وأنا أحتسي قهوتي الصباحية، تذكرت موعدا لي، لتجديد بطاقة هويتي، تلك التي تمردت علي، وانسلت من محفظتي الصغيرة، في غفلة مني، لتتيه في شوارع وأزقة الرباط حرة طريقة، تذكرت جملة كتبها المرحوم والدي،على هامش مخطوط لا زلت أحتفظ به. جملة مفادها " في يوم الخميس، على الساعة الخامسة والنصف صباحا ، ازدان فراشنا بمولود ذكر، أسميناه محمد ".

تأملت حروف إسمي الأربعة، قلبتها على أكثر من وجه، غيرت مراتبها،حاولت استنطاق مدلولها، رسما وترتيبا، وهي تتأملني... خلتها تتساءل متمتمة: ماذا يفعل هذا؟ الرجل ابيض شعره، ولم يدرك بعد، دلالة إسمه...

أثار انتباهي لأول مرة، بدأ اسمي بنفس حرف كلمة "ماء" والماء هو أصل الحياة في بعض النظريات، قطرة منه تنعش العطشان، كما أن "الماء " يكون قوة لسلب الحياة، حين تجتمع أمواجه في إعصار مدمر.

سألت حرف "ح " وحرف " د "، عن سر إصرارهما على وضع حد فاصل، بين الميم الأولى والميم الثانية من حروف اسمي...

جاءني الجواب من حرف الحاء، قائلة: يا محمد، كان بودي أن أكون حرفك الأول، لأنني عنوان الحب، والحب هو الخيط الرابط بين مختلف الأمم والشعوب والافراد،بدونه لا تستقيم الألفة والمودة ، لكنني تركت الأسبقية لحرف "م" وهو الحرف الأول لمن حملتك تسعة أشهر "محجوبة" تقديرا وتشريفا لها، من جهة، وتأسيسا على المأثور في القول-أمك،فأمك فأمك،فأبوك"..

قلت لحرف "الدال"، تلك مسألة استهويناها وقبلناها من زميلتك "الحاء" لكن ما خطبك أنت وكيف رضيت بوضعك الأخير في ترتيب حروف اسمي؟

وقف الدال منتصبا، وفي ابتسامة ماكرة قال: أنا أيضا لم أقوى على منافسة الميم الثانية، لكونها الحرف الأول لوالدك المرحوم " ميمون " رمز الطيبوبة والحنان...

استغربت، بقدر ما استمتعت بمنطق تلك الحروف، وما يربطها من مودة ومحبة، وإيثار. قلت في نفسي: هل للمرحوم والدي "الحاج ميمون " يد في اختيار دلالة الاسم؟ أم أن الأمر جاء صدفة؟

حاولت إيجاد موطن لهاته "الميم " المتمردة، في مسار حياتي، فوجئت بكونها أول حرف لإطاري المهني الأول " مدرس " ، لم تكتفي تلك " الميم " من ملاحقتي، فأصرت على تأتيت، إطاري المهني الثاني " مستشار في التوجيه " ، عرفت عنادها وإصرارها على ملاحقتي، أينما حللت وارتحلت، حين وجدتها بارزة بشكل مفخم في إطاري المهني الثالث " مفتش " ... هي ميم متمردة، استوطنت أيضا، اسم رفيقة دربي " فاطمة".

نقبت وبحثت ، التفت يمنة ويسرة، انتبهت أخيرا لمادا أطلق علي زملائي وأقربائي لقب " مستعجلات " أدركت حينها أن ميم التمرد تلك تفضلت أخيرا بهذا اللقب نظرا لإدراكها العدد الهائل ممن رافقتهم أو حملتهم للمستعجلات؛(زملاء، أصدقاء، أقارب...).

مع أول طفل لعشنا الزوجي، ومن حيث لا ندري، اخترنا لولدنا البكر إسم " أنس " خالي من "الميم " المتمردة، لكنها أصرت إلحاحا، أن تستوطن آخر حرف من اسم ولدنا الثاني " هيثم ".

بقيت في حيرة من أمري مع " ميم التمرد " تلك، سألتها ونحن في خضم ورشة تكوينية، نظمتها شبكة القراءة (فرع فاس) حول تقوية القيادات في التنشيط، سألتها: بالله عليك يا "ميم " إسمي، ما سر سقوطك من أسماء زميلاتي وزملائي أعضاء شبكة القراءة، لم أجدك في : غنضور، أو نجية، أو بوسرغين،أو نجيب، ورشيدة وغيرهم كثير؟
لم ترق ملاحظتي " ميم " اسمي، انتصبت على حين غفلة مني، قالت باستياء: أيها المشاكس، العجوز، أنا "ميم " التمرد، سقطت من جل أسماء زميلاتك و زملائك القراء، لضرورة قرائية، لا لضرورة شعرية. لكن قبل انحداري ذاك، تركت أخي الشقيق، حرف " ن" باعتباره حرف النضال ليجعل من هؤلاء الزميلات والزملاء، حاملين لقضية تنمية فعل القراءة وتوسيع رقعة المعرفة، أملا منهم في مغرب قارئ.

لتعلم أخيرا قوة تمردي، أنا بصمت اسمك حين خروجك الأول لهذه الدنيا، كما سأكون حاضرة وبقوة، حين نقطة نهاية مشوارك في هذا الكون، سأتصدر كلمة " موت " يتلوني واو الندا وثاء الاستغاثة، لمن سيشيعونك لمثواك الأخير.

شعرت برعشة خوف ، بقدر ما شعرت بالفرح من هذه الميم المفخمة المتمردة، والتي استوطنت كياني وهويتي، كان عزائي حين نبهتني قائلة: يا محمد ، أتدري أن هويتك ( مغربي )، إن تمَرَّدتُ عليك وسقطت عنوة منها، ستصبح هويتك " غربي " .

حمدت الله على تريتها ذاك وتساءلت لأكثر من مرة : هل لوالدي الفقيه الحاج ميمون - رحمه الله - يد في اختيار هده الميم العنيدة ؟ خاصة وأنني كنت أسمعه غير ما مرة، بقوله أن الدين الإسلامي يحث الآباء على حسن اختيار أسماء أبنائهم.

ويبقى السؤال منتصب القامة يمشي....وفي مشيته ميم متمردة عنيدة...أتى في المثل المأثور عنها" سبق الميم ترتاح".



                                  محمد يسين/الرباط/ نص من مجموعتي القصصية"حديث الجمجمة".