فؤاد زويريق: التمثيل أصعب مهنة فنية 

فؤاد زويريق: التمثيل أصعب مهنة فنية  فؤاد زويريق
أسهل مهنة هي مهنة التمثيل، تلبس الشخصية كما تلبس جواربك، ثم تكسب المال والشهرة دون مجهود يذكر، هكذا بدا لي الأمر أول مرة أو هكذا اعتقدتُ، ولتأكيد ذلك جهزت العدة واتخذت قرارا بأن أصبح بدوري ممثلا، جلست أفكر بأية شخصية سأبدأ تجربتي هذه، وضعتُ عدة شخصيات أمامي حتى أختار، شخصيات من مختلف المجالات والميادين، احترت أول الأمر فكل هذه الشخصيات لها وزنها وقيمتها الشيء الذي صعّب علي الإختيار، في الأخير تذكرت بأنني مغربي، إذًا سأنحاز الى مغربيّتي وسأختار شخصية مغربية، من سأختار يا ترى؟ آه وجدتها، اخترت شخصية من ميدان الفكر والعلم، شخصية مؤثرة وخطها الدرامي ممتلئ بعدة محطات، اخترت المفكر والباحث وعالم المستقبليات المهدي المنجرة، لبست الشخصية ثم خرجت الى المشاهدين، بدأت بتأدية دوري كما يجب، صفّق الجمهور وهتفوا لي، فتفاجأتُ بالسلطة تُسكتهم وتحاصرني، وتقمعني، لم أصمد كثيرا فأنا مجرد فنان بمشاعر حساسة للغاية، تنازلت وخلعت رداء هذه الشخصية ووجهت اختياري هذه المرة الى الأدب، اخترت شخصية الروائي محمد شكري، ارتديتُ شخصيته كما هي في روايته "الخبز الحافي"، البعض صفق لأدائي والبعض الآخر سلط لسانه علي ونعتني بالصعلوك والزنديق والمتشرد، لم أصمد أمام ضرباتهم ولا أمام سلاطة ألسنتهم، خلعت مجددا رداء هذه الشخصية، وحتى لا أسقط في متاعب أخرى عقدت العزم على مغادرة المغرب وتبني شخصيات من خارجه، من سأختار؟ آه، سأختار شخصية أعطت للمجال الفني والدرامي والسينمائي والأدبي العربي الكثير، شخصية مسالمة جدا، اخترت الأديب المصري صاحب نوبل نجيب محفوظ، تقمصتُ دوره، جلست على مكتبه، وتحت إضاءة خافتة، تظاهرتُ بأنني أكتبت روايته ''أولاد حارتنا'' وقبل أن يأذن لي المخرج بالتوقف شعرت بشيء حاد يُغرس في عنقي، اختنقت وشعرت كأنني أودع هذه الحياة، وقبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة سارعت بخلع شخصية نجيب محفوظ، عادت إلي الحياة مجددا، فعكفت على دراسة شخصيات أخرى قادرة على إبهار الجمهور، سأتجه هذه المرة الى التاريخ، فالتاريخ منجم ثمين لفن التشخيص والدراما، وحتى أبتعد عن الحاضر ومتاعبه عدت قرونا الى الوراء، فاخترت شخصية صاحب "تهافت التهافت" العالم والفيلسوف والطبيب... ابن رشد، لبست عباءته واعتمرت عمامته ووقفت أمام الكاميرا أنتظر صيحة ''أأأأكشن'' من المخرج، وأنا كذلك اخترقت أنفي رائحة حريق آتية من قريب، هرولتُ اتجاهها فوجدت كومة كتب كبيرة تحترق سألت المتجمهرين عن الأمر، وبمجرد تعرّفهم عليّ صاحوا كلهم والشر في أعينهم هاهو الملحد صاحب هذه الكتب! شعرت بالخطر، هربت منهم، اختبأت في ركن مُنزوٍ، أزلت عني شخصية ابن رشد، وعدت الى شخصيتي الواقعية وكأن شيئا لم يكن.  
 
لم أستسلم، عقدت العزم أن أؤدي شخصية عالمية تاريخية، شخصية لها هيبتها وبطولاتها، شخصية مِلء السَّمع والبصر، فاخترت يوليوس قيصر، لبست لباس الإمبراطور ووقفت بكل شموخ وكبرياء أمام الكاميرا، وبمجرد ما أعطى المخرج الإشارة لبدء التصوير حتى أحسست بالكثير من السكاكيين تُغمد في جسمي بغِلّ، التفتت خلفي مندهشا لأجد بينهم أقرب صديق لي، بروتس، لم أقو على تقبل خيانته لي، صرخت في وجهه: حتى أنت يا بروتس؟ ثم خرجت من الشخصية، ارتميت فوق الأرض من فرط الرهبة والدهشة، التقطت أنفاسي أخيرا، ثم قررتُ أن أؤدي أدوار شخصيات رومانسية وفنية بعيدة عن السياسة ومتاعبها، اخترت شخصية الموسيقار بيتهوفن، أخيرا سأستمتع بالموسيقى والفن، في موقع التصوير وقف معي المخرج يشرح لي بعض الأمور التقنية، لم أسمعه، بل لم أعد أسمع أي أحد في الموقع، لا شيء، صمت رهيب يحيط بي رغم أن الكل يتكلم ويصرخ، أشار إلي المخرج بأن أخلع الشخصية، خلعتها فعاد إلي سمعي من جديد، أخبرني أن بيتهوفن كان فاقدا لحاسة السمع وأنه توفي مسموما، اندهشت، فقال لي معاتبا: ألم أطلب منك أن تحضر وتدرس الشخصية؟ اعتذر منه ثم انسحبت، بحثت عن شخصية أخرى، شخصية عاطفية ورومانسية، فاخترت أشهر محب، روميو، وبمجرد ما ارتديت شخصيته استبد بي الحب والعشق والهيام، بحثت عن حبيبتي جوليت، فلم أتمكن من لقياها وأشبع من حبها، بكيتُ مصيري ومصيرها، أدركت أنني وسط مأساة أكثر منها قصة حبّ، انسحبتُ من الشخصية  لأعتزل التمثيل نهائيا بعدما استخلصتُ بأنه من أصعب المهن وأشدها فتكا بنفسية من يمارسها بجد وشرف وصدق، وأدركت من هذه التجربة بأن مصير الممثل الصادق المجتهد مرتبط دائما بمصير الشخصية التي يتقمصها.