المهدي سابق: عيطة التراب المبلل للأطلس

المهدي سابق: عيطة التراب المبلل للأطلس المهدي سابق
في هذا الجو الماطر، غُلِّي زفراتك بباب الزريبة أيتها الأحلام المتكئة على سطح الزنك، يعاركني الحنين لذلك البيت الطيني، محاكاة للقيط هائم في قلب القبيلة، بلا نسب وبلا مساحيق، منزل صغير منعزل في براري العمر، أكمل دورته الأبدية ومضى، تاركا وراءه رطوبة المكان في وجه صفحات الأيام.

تتربع في كبد البيت نافذة، النافذة الوحيدة كما عين أرملة تطل على الدنيا بكسرة حزن، حافتها مرايا، أعياها تفحص وجوه المارة جيئة وذهابا، وجوه باردة بلا أسماء ودون هوية، تحتها فانوس زيتي علاه دخان الأزمنة، وشمعات شامخة تحرس نعاس الدار. صمت القبور الهادئة، لا يكسره إلا صوت المطر ممزوجا بدخان الحطب، نفس صمت الطوب الذي تشرب عرق الناس الظمآنة.

كنت أرمق العالم عبر ذلك الشباك كالعادة في الصباحات المرمدة، غليوني البلدي محشو بقنب هنود جبلنا، لفة حشيش بلدي معفرة في جيب جلبابي البلدي أيضا، وعيني تتسابق الخطى مع قطرات المطر المنكسر رأسها على صفحة السطح الزنكي. يتصاعد دخان المآذن من سقيفة البيت مكثفة لعبق رائحة الزمن، زمن قاع الدار.. مطر ورطوبة وغنج الأسماء المؤنثة بلا موسيقى.. لكن صخب الطبيعة صامت بعذوبة.

فكل صباح، مع صيحة الخرفان المنفلتة من حظيرة الأولين، كان صوتي العاجية بحته يتعالى صداه بلا مقدمات.. غير مكترث بالجيرة.. أمطري، أمطري فإن خراجك في بواطن قلبي.. والله يحرسنا..
صوتي يقرع الطبول المخملية للحيطان المكلسة، كلس معتق في خميلة الكلمات يحكي كما شهرزاد قصص آشوريي البلدة.. حيث كان الحلم يدب مزهوا برائحة التراب المبلل.. كان فطريا إذ لم يكن له جناحان بعد.

والدي، ذاك العجوز الذي خط الزمان حروف محياه بحبر مفاصله من سخام رماد المدخنة.. نتبادل نفث عبق الغليون السحري، تختلط الأذخنة كما فرن البلدة حيث تمتزج رائحة تحميص الخبز بضباب الكيف السرمدي.. نقلب صفحات عتيقة لسرديات الأزمنة الغابرة المكنونة في أوراق البردي الأثرية.. محكيات تنتابها لحظات صمت قصور الطين، لا يكسرها إلا انبعاث عيطة زعرية تهز أركان دواخلنا، كعاصفة رعدية تصيب الشط برعشة زمهريرها.. كانت قشعريرة للذة قصيدة النغم.. إنه سحر حوريات الغجر برائحة ذلك التراب المبلل بماء الورد.

عيطة زعرية منبعثة من أعماق الكهوف السرمدية، يخترق صداها قمم جبال تاغية، عبر ممرات الأحبال الصوتية لعميد أساقفة السدة العالية لجبال الأطلس.. الأسطورة رويشة، أنغام منسمة بالأعشاب العطرية للزفرات التادلاوية والنفس الطويل لأولاد أوطلحة. كان صوت العيطة يسري في العروق منتشيا كنبيذ مسموم، يرن في العظام بذبذبات العشق الممنوع.

أمطار الهامش دافئة العمر، وصفيح السطح كقصيدة حزينة بلا جمهور. صوت القطرات يعزف على لوح الزنك سمفونية البيادر المبتلة، نغمة معجونة بحكايات ليلية، بخوف الخريف، وبزغاريد نساء القبيلة.. هي زغردات عرس قديم انبعثت من منمنمات النسيان.

في ذلك البيت الطيني كبرنا ونحن نسمع حكايات الأرض.. كيف كانت القبيلة وكيف غدت، كيف كانت الماشية مليئة بطونها وكيف جاعت، كيف البساطة كانت عزا وكيف صارت ذلا. في الزقاق الموحل بطين الفخر، وتحت سقف الصفيح الزنكي الذي تآكل مع الأيام، تعلمنا أن الحزن جزء من الهوية، وأن رويشة وغليوننا السحري وقطرات المطر.. المدرسة الوحيدة الجديرة بأن ننحني لسطوة حُنُوها.. إنه ذلك الرحم الأزلي الذي أنجبنا.

هل هناك من لازال صدى أوثار رويشة يغازل دواخله؟ هل لازال من يبكي عشقا مع قطرات المطر؟ أم أن الدنيا طوت معاطفها القديمة وتركتنا لوحدتنا ودخان الغليون يراقص نغمات العيطة الأسطورية.