محمد عزيز الوكيلي: العالم يتحرك.. تُرَى إلى أيِّ المحطّات هو ذاهب؟!!

محمد عزيز الوكيلي: العالم يتحرك.. تُرَى إلى أيِّ المحطّات هو ذاهب؟!! محمد عزيز الوكيلي
كانت البداية مع انفجار الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، من الجانب الروسي أساساً، رغم ما قاله البعض عن تحرّشات أوكرانيا بنظام بوتين، عن طريق تهديده بتوطين القواعد العسكرية لحلف الناتو بالقرب من حدود روسيا الاتحادية، وهو التهديد الذي دفع بوتين، كما يدّعي أصحابُ هذا التأويل السياسي، إلى القيام بإشعال فتيل "حرب استباقية" للدفاع عن حدوده ومنع أي اقتراب منها من لدن أيّ صنيعة أمريكية أو "حلف-أطلسية"... وكما نلاحظ، فهذا القول يرمي إلى الدفاع عن موقف بوتين، لغايةٍ في نفس قائلِهِ قضاها!!
 
إنّ هذا الدافع "البوتيني" إلى مهاجمة أوكرانيا لا يهمنا في هذا المقام، بقدر ما تهمنا الوقائع التي رافقت ذلك مباشرة، والتي أشّرت على تحوّل كبير قادم، في موازين القوى العالمية بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من جهة ثانية. أما باقي العالم، فكما يقول المَثَل البدوي العروبي في بلادنا "إذا تناطحت الثيران سخط الله على البرواغ"... (بمعنى: "إذا تناطحت الثيران فرحمة الله على الحشائش التي تدوسها القوائم")!! 
 
ويمكننا ملامسة تلك التحولات من خلال المعطيات التالية:
أولا:
تأكّد للمتتبعين للسياسة الدولية أن المعسكر الشرقي العتيق، الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي، غير المأسوف على ذهابه، ما زال مركوناً تحت رماد قابل لانبعاث والاشتعال من جديد، وإن كان ذلك مشفوعاً باختلاف سطحي في المظهر يكاد يخفي حقيقة الجدلية التاريخية المستمرة، رغم التغيير الذي لحق بهياكل المعسكر الشرقي القديم ومُسمَّياته، والذي رافق حركة "البيرسترويكا" التي قادها قاتِل الاتحاد السوفياتي الرئيس "غورباتشوف"، والتي أدت بتحصيل الحاصل إلى انهيار جدار برلين، وتوحيد الألمانيتَيْن الشرقية والغربية، ودخول العالم برمته في حركة تَحَوُّل ظلت متفاعلة ومستمرة إلى غاية الإعلان عن نشوء مفهومَيْ "العولمة" و"النظام العالمي الجديد"، وتحديداً غداةَ اندلاع حرب الخليج الأمريكية العراقية الأولى، التي قادها الرئيس بوش الأب تحت شعار كاذب يدّعي "تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل دفاعاً عن أمن إسرائيل"، وهي الأسلحة التي اتضح لاحقاً أن الجيش العراقي لم يكن يتوفر عليها في الواقع، رغم تقارير المخابرات الأمريكية ومعها الهيأة الدولية لنزع السلاح التي تعرضت آنئذ لكل أشكال الضغط، والتي اتضح، لاحقاً أيضاً، أنها كانت كاذبة فيما أصدرته من تقارير تتهم العراق ظلماً وعدواناً بامتلاكه لذلك النوع من السلاح المحظور دولياً!!
هذه العلاقة بين المعسكرين الشرقي والغربي، والتي ظلت ملتبسةً بين المعسكر الأول بزعامة كل من روسيا والصين، والمعسكر الثاني بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتبدّد اِلْتِباسُها رغم كل المظاهر التوافقية الخادعة، التي جعلت البعض يتحدث عن "انتهاء الجدلية" و"موت التاريخ"، والدخول في مرحلةٍ "أحاديةِ القُطبية"، كما قال الفيلسوف الأمريكي ذي الأصل الياباني "فرانسبس فوكوياما" مخطِئاً، بل ظلت قائمة من خلال التجاذبات المؤبَّدة بين روسيا وإمريكا، وكذلك من خلال الزحف الصيني المتلفّع بأردية الاقتصاد والصناعة والتجارة والمال والأعمال، والذي يتضح يوما بعد يوم أنه بديلٌ فعّالٌ وخطيرٌ بكل المعايير عن أي زحف إيديولوجي أو عسكري، مما يجعل للصين موقعاً بالغَ التميّز داخل النمط الجديد الذي تلفّعت به الجدلية بمفهومها التاريخي الأصيل!!
 
ثانياً:
إن الزعامة العالمية، التي آلت تقريباً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لا يشاركها فيها المعسكر الغربي أو الأوروبي إلاّ اِسمياً، أو بالإحرى سطحياً، جعلت الزعيمة الوحيدة سالفة الإشارة ترنو إلى إعادة تشكيل خريطة العالم تشكيلاً غير مسبوق وفي غاية الجِدّة، خاصةً بعد أن تحوّلت أوروبا، أو اتحادها بقده وقديده، إلى جسد شائخٍ ومتهالك من جراء عوامل سياسية واقتصادية وثقافية كثيرة من بينها، على الخصوص، الانسحاب المفاجئ للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في عملية بريكسيت brexit أصابت الاتحاد بكل الصدمات، وفي مقدمتها صدمات سياسية واقتصادية ومالية، لتبقى الولايات المتحدة بمثابة الزعيمة الفعلية لهذا المعسكر، ولحلف الناتو تحديداً، محوِّلةً بذلك كل دول الحلف الأخرى إلى مجرد وصيفات وتوابع وليس أكثر، وهو الوضع الذي جعل روسيا والصين تستقويان على أوروبا وتمارسان تجاذباتهما رأسا لرأس مع القائدة الفعلية للناتو!! 
هذا بالذات، هو الذي دفع الولايات المتحدة إلى التفكير في إعادة تشكيل خريطة جديدة لعالَم يسير نحو تغيّرات حتمية، سواء تدخّلت فيها الولايات المتحدة أم لم تتدخل، وخاصة بعد العودة الصاخبة للرئيس دونالد ترامب إلى مكتبه البيضاوي، حيث انطلق هذا منذ الوهلة الأولى إلى اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الرجل كان يطبخ خططه ومشاريعه على نار هادئة طوال السنوات الأربع التي قضاها خارج دواليب السلطة ودهاليزها الخفية!!
فأيُّ الوِجْهات سيأخذها التغيير العالمي المرتقب؟ وعلى أي أسس سيتحقق ذلك التغيير؟
 
أعتقد شخصيا أن القضية الشرق أوسطية الرئيسية، وهي قضية فلسطين، وحل الدولتين الذي يبدو أن العرب لن يتنازلوا عنه، باعتباره مكسباً تم تحقيقه "مبدئياً"، وبالتالي لا يجوز التراجع عنه... أقول، إنني أعتقد أن هذه القضية تأتي في مقدمة القضايا المؤثرة والمُسَوِّغة لمخطط إعادة تشكيل الشرق الأوسط تحديداً، ثم يأتي بعد ذلك باقي القضايا المتعلقة بملفات أخرى لا تقل أهمية، كالعلاقة بين الناتو من جهة، ومخلّفات حلف وارسو أو فارسوفيا من جهة ثانية؛ وكفتوحات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي باتجاه القارة السمراء، التي يمكن اعتبارها خزّان الحياة والتغذية المستقبلي لكل شعوب العالم؛ وكمشاكل الطاقة؛ والاحتباس الحراري والتلوث؛ وكمواجهة الاقتصادات  الصاعدة، بعد روسيا والصين، كالهند وتركيا والباكستان؛ والتكتلات والمحاور الاقتصادية القوية، التي يمكن أن تنشأ بتدبير مُسْبَقٍ أو فجأةً في إفريقيا، والخليج العربي، الذي رغم توفره على مجلس للتعاون فإنه لم يقل كلمتَه بَعد...
 
كل هذا، سيدفع لا محالة باتجاه رسم خريطة جديدة لعالم يَتَوقَّعُ هو نفسُهُ بمختلِفِ مُكوناتِه أن يَطالَه التغيير... ولأن الذي يهمنا في هذا المقال هي القضية العربية الأولى، فسنقف هنا عند ما يدور الحديث عن قرب وقوعه بالشرق العربي خاصة، من خلال طرح الاحتمالات الواردة لدى المتتبعين مع إبداء بعض التحفظ حول وُثوقية ما سيتم استعراضه أدناه:
1- أن يتم إقرار حل الدولتين، الإسرائيلية والفلسطينية ولكن، دون الاضطرار للعودة إلى حدود 1967، السابقة على اندلاع حرب الأيام الستة، مما سيدفع باتجاه تصوّر جديد للدولة الثانية التي ستُجاور الدولة العبرية، يقوم على الدمج بين الأردن ودولة فلسطين في كيان شامي واحد، وربما كان ذلك الدمج مع سوريا بدلا من الأردن، أو معهما معاً، أو مع لبنان أو مع الثلاث دفعةً واحدةً، فيما يُمكن تسميتُه "بلادَ الشام"؛
 
2- ينتج عن هذا الاحتمال أن يصبح الوجود الإسرائيلي بحدوده الراهنة التي ضُمَّ إليها قطاعُ غزة وجزءٌ من الجنوب اللبناني، متجاوراً مع دولة الشام الكبرى، الجامعة بين فلسطين والأردن، أو بين فلسطين وسوريا، أو بين فلطسطين ولبنان، أو بين مكونات هذه الرباعية برمتها، على أساس أن تُشَكِّل في مجموعها كيانَ الدولة العربية الثانية في مشروع الدولتين إلى جانب إسرائيل ولكن، هل تسمح إسرائيل وراعيتُها الأمريكية بأن تكون الدولة العِبرية مجاورة لدولة شام عربية واسعة الأرجاء، وقوية اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً بعد أن تتشكل من الاندماج الرباعي المذكور (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان)؟ أم أن الولايات المتحدة ستعمل كل ما في وسعها لمدّ إسرائيل بما يكفي من الضمانات الحامية لأمنها وسلامتها تجاه جارتها العربية المستقوية، وربما كان من بين تلك الضمانات تحجيم تسليح هذه الأخيرة من حيث الكم والكيف معاً، تحت طائلة حظر التوفر على أي أسلحة للدمار الشامل، وهو الوصف الفضفاض الذي يمكن إطلاقه على أي نوع من السلاح قد تَرى فيه إسرائيل خطراً على وجودها... وفي هذه الحالة، وإذا شاءت إسرائيل ذلك، فقد تُدخِل في هذا الباب أشياءً تافهة مثل إبر الخياطة!!!  
 
ويبقى القول، بالنسبة للموضوعات الأخرى، إنّ إعادة التشكيل هذه من المتوقّع أن تؤدي إلى التضحية بالضعفاء لحساب الأقوياء، ومن ذلك مثلاً أن يُسمَح لروسيا بالاحتفاظ بأجزاء واسعة من التراب الأوكراني، وللصين بالاحتفاظ بجزيرة تايوان... ولكن دولاً أخرى، كإيران وتركيا على سبيل المثال، قد يتم تقليمٌ المزيد من أظافرها وهدمُ المزيد من أنيابها حتى تتحول، فقط لا غير، إلى خزانات للطاقة، والتغذية، ولبعض المُنتَجات المصنَّعة لكي يتبادل معها أقوياءُ العالم الجديد منافعَ اقتصاديةً، تجاريةً وصناعيةً من شأنها أن تًحفظَ الأمنَ الطاقيَّ والغِذائيَّ العالميَّ وليس أكثر!!
تُرى إلى أي مدى يمكن أن يَصْدُق هذا التوقع؟! 
محمد عزيز الوكيلي،  إطار تربوي