جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى، يعتبر من الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي؛ حيث كانت له إسهامات كبيرة في تجديد الفكر الإسلامي، عبر الدروس الحسنية الرمضانية التي أسسها سنة 1963م ، سواء على مستوى المغرب أو على مستوى العالم الإسلامي ككل. عُرف رحمه الله، بقدرته على الجمع بين المحافظة على التقاليد الإسلامية والعمل على تطوير الفكر الإسلامي بما يتماشى مع متطلبات العصر .
ومن بين أهم جوانب تجديده للفكر الإسلامي كان حرصه على تطوير الفهم الديني والتفاعل مع التطورات الفكرية والاجتماعية في العالم. لقد لعب دورًا مهمًا في تعزيز الوحدة بين الدول الإسلامية ودعم فكرة التحديث مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، علاوة على ذلك، كان رحمه الله معروفًا بنشاطه في مجال الحوار بين الأديان، واهتم بتوطيد العلاقات مع العديد من الدول الإسلامية والغربية، مما جعله شخصية محورية في المجالين الديني والسياسي؛ لهذا استخدم المرحوم الدروس الحسنية كوسيلة لتعزيز السلم والسلام والتلاحم بين الدول العربية والإسلامية، عبر تطوير الخطاب الديني ليكون أداة للوحدة الإسلامية .
كما أن جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله جعل من الدروس الحسنية منبرًا لمناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى في المغرب والعالم الإسلامي، مثل التنمية، حقوق الإنسان، العنف والتطرف الديني، والعدالة الاجتماعية، باستخدام المنظور الديني ومقاصد الشريعة الإسلامية .
وقد برزت رؤية الملك الحسن الثاني وفكره التجديدي والإصلاحي في إحدى الدروس الحسنية الذي ألقاها بنفسه، إنها سابقة ظلت تطبع مسار الدروس الحسنية الرمضانية بالمملكة المغربية، أن يلقي الملك درسا دينيا بنفسه في حضرة العلماء والفقهاء والمتحدثين والمفسرين والمسؤولين المغاربة والجسم الدبلوماسي بالرباط العاصمة. لقد ألقى جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله بعض الدروس الحسنية في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي. خلافا لملقي الدروس الحسنية، من العلماء والفقهاء، لم يلق المرحوم الحسن الثاني درسه من الكرسي المعد لذلك، وإنما ألقاه وهو جالس أمام الحضور في مكانه المعتاد مفترشا الأرض، وقد كان درسه حول فصل السلط على ضوء الحديث النبوي الشريف "مَن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" .
و من المعلوم أن هذا الحديث النبوي الشريف شكل موضوع أكثر من درس من الدروس الحسنية في عهد الملك الراحل، إلا أن الدرس الذي ألقاه بنفسه بهذا الخصوص انفرد بشكل واضح عن باقي الدروس؛ حيث قدم رحمه الله تعالى تفسيرا علميا معاصرا لم يسبقه أحد إليه، من أهل العلم والفقه وشراح الأحاديث سواء في العصور القديمة أو الحديثة؛ حيث افتتح الراحل الحسن الثاني درسه قائلا: "وقد أجهدت نفسي على أن لا أرجع إلى مرجع، ولا أطالع كتابا أو تفسيرا أو تأويلا حتى يكون حديثي هذا بمثابة امتحان، لا لي فحسب، ولكن لجيلي". وأضاف رحمه الله "فإذا وفقنا الله سبحانه وتعالى تمكنا من أن نقول إن جيلنا رغم ضيق علمه وعدم اتساع إطلاعه ومعرفته باجتهاد ومقارناته، أمكنه أن يعلم ولو النزر القليل من الديانة الإسلامية والسنة النبوية، وإن نحن، والعياذ بالله، لم نوفق فسيكون لنا ذلك حافزا لأن نسعى دائما وراء العلم، ونعاشر أهل العلم ونجالسهم.." .
حاول الملك الحسن الثاني رحمه الله تفسير الحديث، ليس تفسيرا فقهيا أو تفسير علماء الحديث، وإنما على ضوء السياسة الاجتماعية وعلى ضوء فصل السلط وعلى ضوء تنظيمها و "ذلك شغلي فأهل مكة أدرى بشعابها" كما قال الراحل الحسن الثاني.
تناول الملك الجانب التنظيمي والإجرائي في هذا الحديث، من وجهة نظره، معتبرا أن هناك تحديدا لفصل السلط "فليغيره بيده" يقول الملك: "تفسيري أنا شخصيا بكل تواضع ـ "بيده" بمعنى السلطة التي أتاه الله (أي الحاكم) بكيفية شرعية.. ثم هناك المشرع، فالحكومة والإدارة.. بمعنى إذا كان لك أيها الإمام أو أيها الملك أو أيها الرئيس تلك السلطة التشريعية ورأيت إما ببصرك أو ببصيرتك أو بلسانك بمعنى المخبرين، والحقيقة أن اليوم اللسان و الهاتف أو التليفون والراديو، حيث يمكن للرسائل أن تصل بسرعة.. إذا رأيت هذا المنكر أو رآه من ينوب عنك وعلمته ولم تغيره، فسوف تكون إذاك مذنبا مجرما بالنسبة إلى الله أولا، وبالنسبة إلى ذلك المجتمع الذي جعلك الله عليه قيما وراعيا ومسؤولا..؟. ففي نظر الراحل الحسن الثاني، التغيير باليد هو من اختصاص القيمين على الأمور ويدخل في نطاق مفهوم الدولة وحاكم البلاد والوزراء والعمال والولاة والقواد والقضاة والموظفين السامين والمسؤولين.
أما بخصوص تغيير المنكر باللسان، ذهب الملك الراحل إلى القول: " اللسان هنا الإخبار أو الكتابة، عليه أن يكتب إلى عامل الإقليم أو إلى والي المدينة أو إلى قاضي القرية، أن يكتب لهم ويمضي كتابه أو يبلغه بواسطة الهاتف وهو لسان المنكر الذي رآه وشهده وشاهده، حيث يمكن للقائمين على الأمر أن يغيروا ذلك المنكر" . أما في موضوع تغيير المنكر بالقلب، فقال الملك رحمه الله في درسه: "فإن لم يستطع فبقلبه، ما معنى القلب؟ لا أعتقد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما قال بقلبه قصد القلب، لأنه ليس من شيم النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عبقرية الإسلام أن ننطوي وننزوي ونكون كالرهبان نتعبد ونستغفر لغيرنا، بل حتى في قلبه أراد بذلك عملية إيجابية وحركة، بمعنى :بخلقه في نظري، بسيرته، فليكن مواطنا صالحا، موظفا نقيا، رجلا نزيها في أمانته، رب أسرة لا يقوم بأي منكر ولا بأي فاحشة بكيفية عامة ".؟وأضاف الملك الراحل في متن درسه: "كان في إمكان الله سبحانه وتعالى وهو قادر على كل شيء والملم بكل شيء أن يأتينا صحبة كتابه وقرآنه بلائحة، منشور فيه تعداد لما هو حلال وما هو حرام، كما تأتي منشورات الجمارك أو منشورات الضرائب، هذا منشور الحلال وهذا منشور الحرام، إلا أن الله سبحانه وتعالى أبى إلا أن تكون الديانة الإسلامية ديانة تكريم العقل البشري، ديانة تجعل من المسلم رجلا مسؤولا عن أعماله، مسؤولا عن نياته.. أتاه الله فكرا وأتاه عقلا، فلم تكن له الديانة بمثابة الحاجز" .
ختاما، لقد لعب الملك الحسن الثاني رحمه الله دورًا مهمًا في تجديد الخطاب الديني داخل المملكة المغربية وخارجها خلال فترة حكمه (1961-1999). لهذا دعا مبكرا إلى الحوار بين الأديان؛ حيث قام بتأسيس علاقات مع الفاتيكان وأخذ مواقف مهمة في تعزيز السلام والتفاهم بين مختلف الأديان، مما جعله شخصية بارزة في مجال الحوار الديني الدولي - في الحقيقة - يعتبر المرحوم واحدًا من القادة الكبار والمصلحين الدينيين الذين ساهموا بشكل كبير في تجديد الخطاب الديني عبر الدروس الحسنية الرمضانية التي تعتبر منصة اسلامية عالمية لأهل العلم والفكر والحكمة .
الصادق العثماني - أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية