هل تخلفت أوروبا عن قطار الذكاء الاصطناعي؟ جاءت هذه التساؤلات بمناسبة المؤتمر الدولي للذكاء الاصطناعي الذي ستستضيفه باريس الأسبوع المقبل. هذا المؤتمر يأتي في أعقاب الهزة الكبيرة التي شهدها قطاع الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد إعلان الصين عن إطلاق "ديب سيك"، المنافس القوي لـ"تشات جي بي تي"الاميريكي في ساحة الذكاء الاصطناعي التي هيمنت عليه هذه الاخيرة بقوة في السنوات الأخيرة. هذا التقدم الصيني أثار مخاوف كبيرة لدى شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة والسلطات في واشنطن، مما دفع إلى دعوات للتصدي السريع لهذا التقدم قبل فوات الأوان.
هذه المواجهة بين الصين والولايات المتحدة شهدت تقدماً كبيراً للصين، حيث كلفت الشركات الأمريكية خسائر تقدر بـ 600 مليار دولار في يوم واحد، وهي أكبر خسارة تشهدها البورصة في تاريخ التكنولوجيات الجديدة. هذه المعركة حول الريادة التكنولوجية بين واشنطن وبكين وقعت بعيداً عن أوروبا وبقية العالم.
اعتبر الأمريكيون هذا التقدم الصيني خطراً وجودياً عليهم، حيث أن استمراره على هذا النحو قد يفقد الولايات المتحدة موقع الريادة التي تتمتع بها منذ سبعة عقود في المجالات الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتعليمية، وفي مختلف القطاعات التي مكنت واشنطن من التفوق على بقية دول العالم.
أصبحت هذه المعركة بين الصين والولايات المتحدة معركة وجودية تتعلق بالأمن القومي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد عبر عن ذلك أحد أبرز أعضاء الكونغرس الأمريكي، السيناتور الديمقراطي تشاك شومر، الذي أكد أن الشركات الأمريكية تسعى إلى تحقيق ذكاء اصطناعي يتمتع بقدرات معرفية تعادل تلك التي يتمتع بها البشر. كما طالب حكومته بضرورة تشديد القيود على الصين واتخاذ خطوات للحفاظ على الريادة الأمريكية في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يعتبر من قضايا الأمن القومي.
من بين هذه الخطوات، دعا شومر إلى تشديد القيود على تصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة، خاصة تلك التي تنتجها شركة "إنفيديا"، والتي لعبت دوراً رئيسياً في تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي لدى "أوبن إيه آي".
لكن المفاجأة الصادمة للشركات والحكومة الأمريكية كانت أن القيود المفروضة على الصين لم تكن ذات تأثير كبير. فقد أشارت شركة "ديب سيك" الصينية إلى أنها استخدمت رقائق أقل تطوراً من تلك التي تنتجها "إنفيديا" (والتي يسمح بتصديرها)، واعتمدت على طرق مبتكرة لتحقيق نتائج تعادل أفضل النماذج الأمريكية. وأعلنت أن هذا المشروع كلفها 5 ملايين دولار فقط، في حين أن تكلفة مشروع مماثل في الولايات المتحدة تصل إلى 200 مليون دولار، مما يجعل البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي في متناول بلدان الجنوب والبلدان الأفريقية.
الأمريكيون منقسمون بين من يعتبرون هذه المنافسة الصينية محفزاً لهم، وبين السياسيين الذين يرون فيها تهديداً للأمن القومي. على سبيل المثال، قال الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ساتيا ناديلا، إنه حث شركات التكنولوجيا الأمريكية على النظر إلى "ديب سيك" كحافز لتكثيف جهودها. من جانبه، أعرب الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي"، سام ألتمان، عن إعجابه بهذه المنافسة الجديدة، مشيراً إلى أنه شعر "بنشاط متجدد".
في المقابل، يربط عدد من المسؤولين السياسيين والخبراء في التكنولوجيا بين التقدم الصيني ومخاطر التضليل والتجسس. على سبيل المثال، كتب النائب الجمهوري مارك غرين على منصة "إكس": "دعونا نكون واضحين: أرى في 'ديب سيك' ذراعاً رقمية أخرى للحزب الشيوعي الصيني".
أثار التقدم الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي مخاوف قوية في الولايات المتحدة، لدرجة أنه سمح، في حدث نادر، بتوحيد صفوف الجمهوريين والديمقراطيين. فقد أقر مسؤولو الحزبين العام الماضي قانوناً لحظر تطبيق "تيك توك" التابع لمجموعة "بايت دانس" الصينية.
من جهتها، قالت متحدثة باسم شركة "أوبن إيه آي" لوكالة فرانس برس: "نعلم أن الشركات الصينية وغيرها تبحث باستمرار عن نسخ نماذج من شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية الرائدة"، مشيرة إلى التحديات التي يطرحها هذا السلوك على حقوق الملكية الفكرية بين الولايات المتحدة والصين.
في الوقت نفسه، تتهم الشركات الأمريكية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي بانتهاك حقوق الملكية الفكرية لمبدعين حول العالم، خاصة من خلال استخدام مواد محمية بحقوق التأليف والنشر لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاصة بها.
في هذه الحرب المفتوحة بين واشنطن وبكين حول الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، تجد أوروبا نفسها خارج الحلبة، بل متجاوزة. لكن الجانب الإيجابي في بروز "ديب سيك" الصيني هو أنه أثبت إمكانية تطوير هذه التكنولوجيا باستخدام إمكانيات بسيطة ورقائق إلكترونية أقل قوة من تلك التي تستخدمها الشركات الأمريكية، وبميزانيات صغيرة مقارنة بمئات المليارات التي تنفقها الشركات الأمريكية في هذا المجال، خاصة بعد إعلان الإدارة الأمريكية الجديدة عن استثمار 500 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي.
بهذا المعنى، يمثل التقدم الصيني بوابة لبلدان الجنوب نحو هذه التكنولوجيا الجديدة، مما قد يغير موازين القوى في المستقبل القريب.