لا يمتد الاستقرار في بلدان الساحل في خط مستقيم. وهو ما يجعل دول الجوار تقيم في "لحظة احترازية دائمة" طالما أن المنطقة تعاني إجمالا من الاضطراب، في ظل ضعف التنسيق الأمني بين دول الساحل، وضعف مراقبة الحدود، واستغلال التنظيمات الإرهابية للهشاشة الجغرافية التي تتأرجح بين المناطق الصحراوية الشاسعة وبين المناطق الاستوائية الوعرة التي يغلب عليها الطابع الغابوي، فضلا عن الأزمات السياسية التي تعرفها مجموعة من البلدان.
أمام هذا الوضع المعقد، يقاتل المغرب بكل إمكاناته من أجل الفكاك من ارتدادات الأزمة المتشابكة التي تعيشها دول الساحل، مع تحول جزء كبير من أراضيها إلى محضنة دائمة الحرارة للتنظيمات الإرهابية التي وطدت علاقاتها بشبكات تهريب المخدرات وعصابات الاتجار في الأسلحة والبشر.
ما يؤكد هذه المواجهة هو تواتر تفكيك الخلايا الإرهابية التي على اتصال مباشر بالجماعات المتطرفة في دول الساحل، إذ كشف مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية «البسيج»، في ندوة صحافية بالرباط، يوم 30 يناير 2025، أن عناصر الأمن فككت 40 خلية لها ارتباط مباشر بالجماعات الإرهابية في الساحل «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، جماعة التوحيد والجهاد بغرب إفريقيا، جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، داعش.. إلخ». إذ تتلقى هذه الخلايا تمويلات مالية، فضلا عن تدريبات تقنية متقدمة لصنع المتفجرات من مواد أولية متاحة في المحلات التجارية، ومن ثم تنفيذ اعتداءات إرهابية على أهداف استراتيجية كبرى بالبلاد.
وحسب التقرير نفسه، فإن الخلايا التي جرى توقيف عناصرها كانت تعمل بشكل سري في مناطق متفرقة من المغرب، بما في ذلك المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، مراكش، وفاس، إلى جانب مناطق نائية في الجنوب الشرقي من البلاد، وبعض الأحياء الهامشية في ضواحي التجمعات السكانية الكبرى. كما أن أغلب الموقوفين كانوا في طريقهم إلى تنفيذ عمليات إرهابية، بينما كان بعضهم يخطط للالتحاق بالجماعات المتطرفة في الساحل، إذ نجح 130 من المتطرفين المغاربة في الالتحاق بساحات «الجهاد» الإفريقية في الصومال والساحل، وذلك منذ نهاية سنة 2022، حسب ما كشف عنه تقرير البسيج.
.ومن هذا المنطلق، يعتبر المغرب جزءًا أساسيًا من المساحة التي لها علاقة بمكافحة الإرهاب في الساحل، علما أنه كان، منذ بداية الألفية الثالثة، لاعبًا رئيسيًا في استراتيجيات مكافحة الإرهاب في المنطقة برمتها، سواء من خلال التعاون الاستخباراتي مع دول أخرى، وعلى رأسها أمريكا وفرنسا وإسبانيا، أو من خلال تقديم الدعم العسكري والتدريبي لبعض الجيوش والأجهزة الأمنية في دول الساحل. كما أن المغرب يسعى لتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، حيث يرى أن التنمية هي جزء أساسي من مواجهة الإرهاب. بل إن أهم مبادرتين اقتصاديتين تقدم بهما المغرب على المستوى الإفريقي تتصلان بشكل مباشر بالاستقرار الضروري بدول الساحل، وغرب إفريقيا عموما: أنبوب الغاز المغرب- نيجيريا، والمبادرة الأطلسية.
وإذا كان المغرب هدفا للجماعات الإرهابية، كما تؤكد ذلك مختلف التقارير الاستخباراتية المحلية والدولية، فإن وجود جهاديين مغاربة في منطقة الساحل يضعه في خانة الدول المهددة على الدوام، خاصة أن موقعه الجغرافي جعله نقطة عبور للمجندين المتطرفين من مختلف أنحاء المنطقة العربية والأفريقية. كما يطرح عليه تحديات كبيرة تفسرها العمليات النوعية التي تقوم بها أجهزته الأمنية، بل يفسرها سعيه المستمر إلى تعزيز دوره الإقليمي في مجال مكافحة الإرهاب، بما في ذلك التعاون مع دول المنطقة ودول غربية في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وعلى رأسها «فريكوم» التي يشترك معها في العديد من المبادرات. حيث يقدم المغرب بشكل مستمر معلومات حيوية حول تحركات الجماعات الإرهابية في منطقة الصحراء الكبرى، بينما يقدم «أفريكوم» الدعم الضروري، التقني واللوجيستي لمكافحة الجماعات الإرهابية التي تسعى للاستفادة من الصحراء الكبرى كملاذ آمن لعناصرها.
غير أن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا يبقى هو التالي:
إذا كانت الجماعات الإرهابية قد أثبتت أنها تعيش ذروة نشاطها في منطقة الساحل، وأنها مستمرة في تهديد مؤسسات الدول المعنية، ومعها دول الجوار، فما الفائدة التي ترجى من الاستمرار في التنسيق الأمني وتجنيد الجيوش والأجهزة الأمنية؟ ما معنى التعاون الدولي؟ وما معنى مكافحة الإرهاب إذا كان يتطور بوتيرة تصاعدية في المنطقة؟ وما هي الأسباب التي تجعل الإرهابيين في منأى عن الهزيمة، مع كل الإمكانات المادية والبشرية والتقنية المرصودة؟
يشير بعض المحللين السياسيين إلى أن الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل تحولت إلى ورقة سياسية واستخباراتية رابحة بالنسبة لبعض الدول التي ترى أنها لن تستفيد من الاستقرار، وفي طليعتها الجزائر، التي تتحدث بعض التقارير، أنها قدمت دعمًا لبعض الجماعات المسلحة في منطقة الساحل في سياق ٱقليمي معقد يغلب عليه صراع نفوذ أكبر بين القوى الإقليمية والدولية.
ويتضح من خلال الهجمات التي تعرضت لها شاحنات مغربية، مؤخرا، في منطقة الساحل، أن الجزائر شرعت في استخدام الجماعات المسلحة كأداة للابتزاز، في سياق سعيها للضغط على المغرب، ومعه دول الجوار التي تربطها به علاقات تعاون. فهل معنى ذلك أن الجزائر انخرطت في نزاع إقليمي من خلال وكلاء ٱرهابيين يقاتلون بالأسلحة الثقيلة؟ هل يتلقى الإرهابيون دعما سريا من الاستخبارات الجزائرية لإبقاء دول الساحل، وخاصة مالي وموريتانيا، تحت نفوذها، علما أن فرنسا أصبحت خارج اللعبة بعد تمكن المجالس العسكرية لثلاث دول من الوصول إلى السلطة؟ هل تستنسخ الجزائر تجربة البوليساريو لتنتج جماعات عسكرية ملتحية؟ هل تسعى الجزائر إلى تزويج الإنفصال بالإرهاب لتحقق قوتها الضاربة المزعومة؟
لا شك أن من أبرز النماذج التي يُستشهد بها لاختبار هذا الطرح هو سياق نشوء «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، وهي جماعة جهادية متشددة نشأت في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي كفرع لـ «القاعدة» الأم. وقد تزامن نشوؤها مع الحرب الأهلية الجزائرية «العشرية السوداء». ورغم أن الجزائر كانت تحارب هذه الجماعة على أراضيها، فإن بعض التقارير تشير إلى أن دور الجزائر في مرحلة معينة كان ينطوي على تسهيل تحركات بعض عناصر هذه الجماعات على الحدود، في إطار سياسة ضبط الأمن الداخلي، بما يسمح للقاعدة بتوسيع نفوذها في مناطق أخرى في الساحل، حيث أسست وجودًا قويا. ولعل هذا ما يفضحه كتاب «الحرب القذرة» لجوناثان ليونز، إذ يثير المؤلف قضية تورط بعض عناصر المخابرات الجزائرية في «توجيه» أو حتى دعم بعض الجماعات الإسلامية المتشددة لتحقيق أهداف سياسية استراتيجية. كما يشير إلى أن الجزائر كانت تستخدم الجماعات المسلحة كأداة ضغط في سياق صراعها مع القوى الخارجية، أو حتى كوسيلة لزعزعة استقرار بعض الدول المجاورة مثل مالي أو النيجر.
وقد بينت تطورات الوضع في دول الساحل أن ما أشار إليه جوناثان ليونز ليس مجرد اتهامات باطلة، ذلك أن المجلس العسكري في مالي أعلن، في يناير 2024 إنهاء اتفاق الجزائر الذي تم توقيعه سنة 2015، متهما دولة العسكر بدعم الجماعات الإرهابية، والتدخل في الشؤون الداخلية لمالي. كما أن المجلس العسكري بالنيجر ما زال لا ينظر بعين الرضى لموقف الجزائر من الانقلاب العسكري ضد الرئيس محمد في نيامي، فضلا عن قيام دولة العسكر بإغراق النيجر شهريا بآلاف المهاجرين من غرب إفريقيا الذين يسعون إلى الوصول إلى أوروبا، وهو ما نددت به منظمات غير حكومية من بينها منظمة أطباء بلا حدود.
خلاصة القول، إن المغرب لا يواجه فقط التهديدات الإرهابية القادمة من الساحل، بل يواجه «إرهاب دولة» اختارت القناع من أجل تصفية حساباتها الوضيعة مع دول الجوار. ذلك أن الجزائر اختارت زعماء الانفصال والإرهاب وكلاء للتدخل العسكري المباشر في النزاعات الإقليمية، وهي استراتيجية تتوهم أنها ستسمح لها بالسيطرة على الوضع الأمني على حدودها الجنوبية، وتحويل الساحل إلى خلفية لكل عملياتها القذرة لضرب الحصار على المغرب، والحيلولة دون ارتباطه بعمقه الإفريقي.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"