والملاحظ، أن ما يميز هذه المتابعات، أن بعض أسبابها تعود إلى خلافات بين المحامي والقاضي خلال الممارسة، حيث يعتبر المحامي أن موقفه تفرضه عليه المسؤولية التي أناطها به الموكل، بينما يعتبر القاضي في الرئاسة أو النيابة، أن موقف المحامي أو تصرفه، فيه تجاوز لحدود مسؤوليته المهنية، وروح القسم المهني الذي أداه.
وبين الموقفين، وتقدير كل منهما، والتزام كل جهة بما لها وما عليها، حيث يكون المرجع في التقدير، نقابة المحامين، نقيبا ومجلسا، والنيابة في شخص الوكيل العام بمحكمة الاستئناف، كجهة اتهام ومتابعة، والقرار القضائي كمصدر لجهة الفصل النهائي في الحدث، أو سوء التفاهم أو الفهم من أحد الطرفين.
والذي يدعو إلى إثارة الانتباه والملاحظة، وحتى التعليق، هو هذا التطور السلبي في العلاقة بين هيئة الدفاع والقضاء، الذي يطبع المرحلة الحالية، أو هكذا أتصور على المستوى الشخصي على الأقل، نتيجة للمقارنة بين ما طبع المراحل السابقة عبر التاريخ، من احترام للطرفين كل منهما للآخر، وهذا لا يعني بأنه لم تكن تقع بعض الحوادث أو التصرفات، من هنا أو هناك، حيث كان يجرى تداركها من عقلاء الطرفين ومسؤوليهم، بتدخلاتهم في الوقت المناسب بروح التجاوز، والحرص على استمرار العلاقة السامية والنبيلة التي يجب أن تسود، والمكرسة في المبادئ والقوانين والتقاليد والأعراف القضائية والمهنية، خدمة للأهداف والمسؤوليات التي طوق بها التشريع الإلهي والبشري الإنسان على الأرض، وهي الاضطلاع بأمانة توزيع العدل بين الناس، حيث قال: ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ...)).
فهل ردود الفعل، التي تم اتخاذها أحيانا من طرف القضاء، واقف أو جالس، هي حالات استثنائية معزولة، أم هو توجه واختيار ؟.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الأسباب التي تفرض هذا التحول الدرامي، في ردود الفعل المشار إليها، والمطبوعة بالطابع التأديبي، وقد يتطور إلى الزجري.
وهل هذا التطور السلبي، له مرجعية وطنية مركزية، أم أنه موقف محلي أو جهوي، مصدره رؤية مسؤولين محليين، فرضت عليهم تصرفات، أو انحرافات حتى، اتخاذ مواقف ليس لهم بدائل غيرها، للتصدي ((للزلل)) ووضع الأمور في نصابها، تحملاً لمسؤولياتهم.
وإذا كان الأمر كذلك، فما موقف مجالس الهيئات المعنية بهذه الحالات، التي وصل فيها الأمر، إلى تحريك المساطر حتى ضد بعض المسؤولين في المجالس المهنية ؟.
إن الواقع المهني، والأحداث التي تفرزها الممارسة، التي قد تطبعها بعض الانزلاقات، تفرض على المسؤولين المهنيين من مجالس الهيئات، وجمعية هيئات المحامين بالمغرب، قراءة الواقع بما قد يطبعه من انفلات، ودراسته ووضع خطة لمعالجته ومواجهته، وفاءً للمسؤولية الحقوقية والمهنية، وفي المقدمة السادة النقباء وأعضاء المجالس، تحسباً لما يمكن أن تفرزه التطورات السلبية التي تشهدها الممارسة المهنية لبعض المحامين، وتحديد الأسباب والدواعي التي أوصلت الوضعية لما هي عليه، وإبراز الواقع بكل حيثياته، وتحديد العلل التي يشكو منها الواقع المهني العام، والذي تتحمل فيه الحكومة، والمؤسسات ذات العلاقة المباشرة بالمجال، القسط الأوفر من المسؤولية فيما آلت إليه مهنة المحاماة خاصة، والعدالة بصفة عامة، والتي لا مجال لتعداد مظاهرها، اعتبارا لأن هناك جدلية بين أدوار المؤسسات الرسمية، وواقع الممارسة المهنية، والتي يضيق هذا الموضوع، عن سرد أسبابها واستشراف وترقب عواقبها، إذا لم يتم تدارك الوضعية من جميع الأطراف ذات العلاقة، المباشرة وغير المباشرة بقطاع العدالة، وضمنه وضعية مهنة المحاماة.
وعلى كل، فإن ما يدعو إلى إثارة الانتباه في الظروف الراهنة، هو ما أشير إليه سابقاً، من أن تحريك المساطر القضائية ضد بعض المحامين، ارتفعت وثيرته في الفترة الأخيرة بشكل متصاعد، ومتعدد الأسباب والدواعي، وحتى تجاوزاً للمسؤولين المهنيين - أحياناً - ، اعتقاداً بتساهل هؤلاء في تحمل مسؤولياتهم في الوقت المناسب وبالصرامة اللازمة.
وفي جميع الأحوال، وسواء كان ما يلاحظ من أن - العين الحمراء – تسلط اليوم على المحاماة، من خلال ما أشير إليه أعلاه، هو توجه واختيار، أم أن الأمر لا يتعدى حالات معزولة، تطلبت مواجهتها إجراءات، قد تكون غير معهودة. فإن المصلحة العامة - وفي مقدمتها العدالة - تستوجب الوعي واستحضار، العواقب التي قد تنتج عن تبخيس دور المحاماة، بدل إثراء العمل القضائي وتجويده، ضماناً للحقوق والحريات، بما يساهم في التنمية وتشجيع المبادرة الاقتصادية، ذات المصدر الداخلي والخارجي، حيث لا يمكن إغفال دور المحاماة في هذه المجالات الحيوية في أي مجتمع، وهل يعقل أن تعتمد مؤسسة اقتصادية وطنية أو دولية، خدمة محام، أو تحكيمه، أو استشارته، أو دفاعه.
إن الشجاعة والجرأة والتضحية من مميزات المحامي، والتاريخ المحلي والعالمي، يؤكد هذه الحقيقة بالملموس، حيث وصل الالتزام بقيم المحاماة وأخلاقياتها، تضحية المحامي بالنفس، قبل النفيس، من أجل الدفاع، عن المظلوم والمضطهد، أو المهدد، في حرياته أو مصالحه، ضمانا لمقومات الصالح العام بصفة عامة، ولهذه الغايات أعطيت للمحامي إمكانيات الاندفاع، الذي لا يخلو من حماسة وحدة، في حدود مجال الممارسة المهنية، وهذا التحمس والاندفاع المحسوب، مؤطر بضرورة الترفع عن سقط الكلام، والابتذال في التعبير، وفاء للقسم المؤدى في محراب القضاء، الذي يمثل القانون الحي، لأنه مبدئيا، مصدر للحقيقة.
لقد تكرس الشعور باستهداف المحاماة، في صورة بعض القرارات والإجراءات، ضد مواقف بعض المحامين، في حالات لا ضرورة تستدعي تحريك المتابعات بشأنها، ما دامت إمكانيات تدارك دواعيها متوفرة بواسطة مسؤولي المؤسسة القضائية، وممثلي المحامين في المجلس، محليا أو وطنيا.
ذلك، أن ارتفاع منسوب مؤاخذة المحامي، بصفة آلية بالمتابعة أو الاعتقال، ينعكس سلبا على المكانة الاعتبارية لمهنة المحاماة بصفة عامة، ويشوش على الثقة والمكانة الاعتبارية، التي استقرت للمحامي في عقلية المجتمع، والأمل معقود على المسؤولين بما لهم من حصافة الرأي، وحسن التدبير، وبعد النظر، وواجب المصلحة العامة والوطنية، تدارك الوضع، (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا، يؤتكم خيرا) صدق الله العظيم.