اليسار الصهيوني: لا نؤمن بوجود الله.. لكنه وعدنا بأرض فلسطين !

اليسار الصهيوني: لا نؤمن بوجود الله.. لكنه وعدنا بأرض فلسطين ! أثار مشهد تسليم الأسرى الإسرائيليين الغضب في أوساط اليمين المتطرّف داخل إسرائيل
أثارت مشاهد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين طيفاً واسعاً من ردود الأفعال. وحكم ويحكم ويحدد طبيعتها واختلافها عن بعضها بعضا، بالإضافة إلى المشاعر الإنسانية وانحيازات المرء الأخلاقية والسياسية، الموقف الأساسي من حرب الإبادة وتاريخ الاحتلال. وكما هو متوقّع، احتلّت صور وأسماء الأسيرات الإسرائيليات عناوين الصفحات الأولى، وشاشات ومواقع وسائل الإعلام السائد في شمال العالم، الذي احتفى بحريتهن المنتظرة. فالتعاطف معهم منطقي وواجب وقد ضمنتْ الخوارزمية السياسية والثقافية السائدة، التي فُعِّلَت بشكل استثنائي منذ السابع من أكتوبر 2023 أنْسَنتَهم وصوّرتهم على أنهم، وحدهم الضحايا. بينما ظلت أخبار تحرير الأسرى الفلسطينيين وأسماؤهم وصورهم ومشاهد الاستقبالات الشعبية المؤثرة والفرح العارم خارج الأطر وبعيدة عن دوائر الاهتمام عموماً. وإن ذكرت فإنها تكون أخباراً عابرة وهامشية تخلو من أي عمق. وتغيب عنها، بالطبع، تفاصيل الوحشية التي عاملت بها السلطات الإسرائيلية الأسرى والتعذيب والإذلال وكل الضغوط التي مورست على عوائلهم.
كان البون شاسعاً ولافتاً بين مظهر ومعالم وصحة الأسرى على الجانبين. فقد نزل الأسرى الفلسطينيون من الحافلات وآثار الوحشية والتعذيب والتجويع على وجوههم وأجسادهم، وتحدثوا عن محنتهم وصمودهم. بينما ظهرت الأسيرات الإسرائيليات بأفضل حال ممكن، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الأوضاع الكارثية الصعبة. ابتسمن ولوحن وكان التعامل معهن لائقاً. لا شك أن الفصائل الفلسطينية استخدمت المناسبة ومراسمها بذكاء، ووظفت رمزية المشهد وطقوسه بشكل لافت لإيصال رسائل مهمّة للداخل والخارج. أما إسرائيل فقد تعاملت مع الأسرى الفلسطينيين تعامل عصابة همجية، وليس هذا مفاجئاً لمن يعرف تاريخها.
 
أثار مشهد تسليم الأسرى الإسرائيليين الغضب في أوساط اليمين المتطرّف داخل إسرائيل. فقد قال إيتمار بن غفير إن «حماس والجهاد الإسلامي وجّهتا رسائل تحد واستهزاء لإسرائيل، وإن المشهد أظهر الفشل الكامل، لا الانتصار الكامل». ولم يقتصر الغضب على اليمين المتطرف فحسب، فهناك، على سبيل المثال، سلسلة تغريدات كتبتها فانيا عوز- سالزبرغر، تعليقاً على تسليم الأسرى يوم الخميس الماضي الثلاثين من يناير الماضي. وهي أكاديمية إسرائيلية معروفة عالمياً، كتبت أطروحة الدكتوراه عن التنوير الإسكتلندي والألماني، وأنجزتها في جامعة أوكسفورد، ودرّست في كلية الحقوق في جامعة حيفا لسنوات طوال. وتعدّ نفسها يسارية، حسب التغريدة المثبّتة على قمة حسابها، والتي كتبت فيها: «كنت وسأظل على اليسار الإسرائيلي» وهي تؤمن بحل الدولتين وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية و«بالعمل من أجل المساواة في الحقوق للمواطنين اليهود والعرب، والاستثمار في العدالة الاجتماعية وتأسيس ديمقراطية اجتماعية معتدلة توجهها القيم». وفي أول تعليق على تسليم الأسرى، كتبت «إذا كنتم تمتلكون من القوة ما يكفي لتشاهدوا «حدث» إطلاق آربيل يهود وغادي موزس، فأتمنى أن تكونوا من القوة لكي تقرّوا بحقارة المجتمع والثقافة، التي تسمح بالتوحش الإنساني وتحتفي به». ما الذي أغضب المؤرخة اليساريّة المتنورة، ودعاها لاستخدام مفردات مثل «حقارة» و «توحّش» مستلّة من معجم العنصرية، تناغمت بها تغريداتها مع خطاب اليمين المتطرّف؟ وما هو تعريف التوحّش ومظاهره؟ تجمّهر البشر لمشاهدة حدث مفصليّ أمرٌ طبيعيٌّ يحدث في كل مكان. وهؤلاء بشر نجوا من توحّش استمر 15 شهراً. هل أغضبها التدافع والزحام واقتراب أجساد الفلسطينيين، ومقاتلي الفصائل الفلسطينية بالذات، من أجساد الإسرائيليين؟ أم أن مظاهر القوة والثقة والسيطرة وعدم الاستسلام هي التي لا تحتمل؟ هل أزعجها احتفاء المتجمهرين بالمقاتلين وإشارات النصر؟ ما تفاصيل ومعايير المشهد كان سيرضى هذه اليساريّة ويرقى إلى توقعّاتها الإنسانية؟ أن يسلّم الأسرى في قاعة مؤتمرات، مثلاً، أو بناية فخمة؟

(حسب آخر إحصاء لمركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات)، دمرت إسرائيل 69 في المئة من البنايات في غزة). في تغريدة أخرى في الحزمة ذاتها انتقدت بعض الذين طالبوها بقليل من النزاهة والتوازن في النظر إلى أوضاع الفلسطينيين والإسرائيليين، فاستشهدت بمقولة لوالدها، الكاتب المعروف عاموس عوز (1939- 2018)، الذي كان أحد مؤسسي حركة «السلام الآن»: «إن الذين لا يميّزون بين درجات متباينة من الشر، سينتهي بهم الأمر أن يصبحوا خدماً للشر». إذن، مهما اقترفت إسرائيل من شرور وجرائم، فإنها ستظل أقل شرّاً وأكثر براءة. لا تختلف عوز- سالزبرغر كثيراً عن اليمينيين المتطرفين في الذّهان والشعور بالاضطهاد والوهم المتجذر، بأن الإسرائيلي هو ضحية أبدية. فنجدها تهاجم الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، والمنظمات النسوية، لأنها كلها خذلت إسرائيل! فتكتب: بعد أن تنكّرت ما بعد الحداثة لأصولها الليبرالية، أصبح من السهل على ما بعد الاستعمار والتعدد الثقافي أن يقتلا النسويّة.

في كتاب ألّفته عوز- سالزبرغر بالاشتراك مع والدها عاموس عوز، عن الهوية اليهودية وعبر العصور، بعنوان «اليهود والكلمات» أكد المؤلفان أنهما ملحدان. وذكرني هذا بالعنوان الثانوي لمقالة المؤرخ إيلان بابيه عن استغلال الصهيونية للتوراة، الذي يقول الكثير عن اليسار الصهيوني والعلماني: «لا نؤمن بوجود الله، لكنه وعدنا بهذه الأرض».
 

سنان أنطون، كاتب عراقي

 
عن: القدس العربي