"إن ما يُغير الانسان هو امتحان الواقع"، أو لنقل إن ما يُغير التعليم هو امتحان واقعه، في تعقده وفجائيته، في استمرارياته وقطائعه...بهذه المقولة التي ساقها النفساني جاك لاكان يُمكن أن نستهل حديثا عن واقع تعليم جديد أريد له أن يكون حلا لوضع مُزمن، رَتق ظرفي لفتق بنيوي، بَله شُرفة جديدة تحجب أعطاب جسد أنهكته عمليات الانقاذ ووصفات الاصلاح...نقصد ها هنا التعليم عن بُعد الذي أقرته جُل الحكومات السياسية في العالم كتدبير بيداغوجي مؤقت لتعويض التعليم الحضوري زمن الجائحة.
لا سبيل للتذكير بما هو مألوف ومعتاد بالهواجس التي ترافق أسئلة العدالة الرقمية وتكافؤ الفرص التي ما فتئت تتضخم في مدارات المجتمعات الرأسمالية ذات المنحى النيوليبرالي منذ لحظة بريتون وودز الشهيرة...لا سبيل أيضا، أن نُردد مع الخبير البيداغوجي الفرنسي فلييب ميريو التذكير بمعضلة التفاوت المجالي التي حكمت على مجالات جغرافية كثيرة أن تعيش ضَحية لقدريتها الجغرافية، وعُرضة لتخرصات البرامج التنموية منذ بدء الاستقلالات الشكلية.
فضاءات طرفية نُظر إليها زمن الرخاء كخزان ديموغرافي وانتخابي احتياطي قابل للإدماج في مقاولات الاستعباد الصناعي والسياسي...قد يُغالي البعض في رسم صورة حالمة تهيم في اعتبار التعليم عن بُعد حل سحري للتعليم الحضوري إذا لم تتهيأ له شروطه ومقتضياته، بِنياته وذهنياته...ويستند بالاقتضاء على وجوب تدريب المتعلمين القدرة على التعلم الذاتي كقدرة حياتية تمكنه من حل وضعياته الوجودية.
ليس بخاف أن التعليم عن بُعد نسق بيداغوجي أعقد من نسق التعليم الحضوري. من خلاله، يتحول الحضور الفيزيائي المادي للذوات الفاعلة إلى حضور افتراضي، وتغيب السلطة الناظمة للفعل وتختفي ملامح الوجوه أمام مساحة التأويلات المبهمة....وحدها الكلمات والحروف تحجب ما يعتمل خلف الشاشات والهواتف...يروج هذا التعليم لتعدد في الوسائط والمنصات التي من شأنها أن تخلق ارتباكا لمتدخلي المجتمع المدرسي لحظة التقويم، مثلما يُسوق لمضامين جديدة قد لا تنضبط لمخرجات الفعل التعليمي التعلمي المؤطر بأهداف واضحة ودقيقة.
وحيث أن هذا النمط من التعليم كان قائما قبل الجائحة بدرجات مختلفة، وبعتاد لوجستيكي جد محدود، وفي فضاءات دون أخرى، لكن عُنف الجائحة عجلت بلحظة ولادة مستعجلة، فكانت لحظة الخروج أشبه بلحظة قيصرية قدمت مولودا بجينات غير واضحة...هذه الولادة القيصرية خلقت ارتباكا وساقت ردود أفعال، مثلما طرحت اكراها لوجستيكيا ونفسيا ومعرفيا بين مكونات المجتمع المدرسي...بقدر ما ينهجس الآباء خلال الجائحة بسؤال الاستمرارية البيداغوجية، تظهر هنا وهناك حالات للسخرية الرقمية من طرف بعض التلاميذ داخل المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما يذهب انشغال الوزارة الوصية إلى رفع الأرقام لتأكيد حجم الاقبال.
التعليم عن بُعد خلق سوقا جديدة، سوقا بمواد جديدة، وبعرض بيداغوجي جديد، لكنها سوق بفوضى عارمة، فوضى في انتاج الموارد الرقمية، لكل سلعته وزاده، منها ما هو مستوفي للشروط والمعايير، ومنها ما هو دون ذلك، يزيد تضليلا على تضليل...صار المتعلم أمام سوق رقمية جديدة، لا سبيل للتمييز فيها بين الحسن والأحسن...
لكن من المؤكد أن هذه الجائحة كشفت عن مستور ظل مُظللا بلغة الأرقام والمؤشرات الواهمة، واقع الفوارق الاجتماعية وهشاشة السِّلم الاجتماعي...تتشفع الوزارة الوصية عن القطاع برقم 600 ألف مستعمل لمنصة تلميذ تيس Telmid Tic، وبإنتاج 3000 مورد رقمي وخلق 40 ألف قسم افتراضي...طيب هل تعكس هذه الأرقام حقيقة الواقع؟ يتحدث خايمي سافيدرا المدير العام لقطاع الممارسات العالمية للتعليم بمجموعة البنك الدولي عن انقطاع 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم زمن الجائحة في 161 دولة من أصل 180 دولة...الأرقام تتكسر بمجرد النزول إلى حقيقة الواقع. الواقع يكذب غواية الأرقام، والسياق هو الباني الحقيقي للمعنى.
في زمن الجائحة يظهر أجمل ما في الانسان، مثلما يظهر أسوء ما في الانسان. تعبأ رجال ونساء التربية والتكوين بحماس كبير من أجل ضمان الاستمرارية البيداغوجية للمتعلمين، واستكمال وحدات البرنامج الدراسي...للأسف، سرعان ما فتر هذا الحماس وتكسر بقرار جائر، منهم من واصل المعركة ومنهم من انكسر...الجميل في التعليم عن بُعد أنه عبأ الجميع من أجل هدف موحد، فكان أشبه ببوصلة حلت لتؤطر مشروعا مجتمعيا، وتخلق إجماعا وطنيا جديدا...والأهم من ذلك ضمن تبادلا كثيفا للخبرات والموارد بين فاعلي المجتمع المدرسي، وحسَّن نسبيا من العلاقة الفاترة بين المدرسة والبيت، ووفَّر قاعدة معطيات مهمة للاشتغال.
صفوة القول يحتاج التعليم عن بُعد إلى أرضية مؤسساتية واضحة، وإلى تشريع قانوني دقيق، وعلاقات تربوية منسجمة، مثلما يحتاج إلى طموح جماعي وإرادة مجتمعية وسياسية، وحَرس جديد يُجابه الحرس القديم، ذلك الذي قال عنه المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف عراب مدرسة الحوليات الفرنسية في سياق مشابه، "...أولئك الذين حَلُّوا بعد الثورة لم يتعلموا جديدا ولم ينسوا قديما...".