يجب التحدث بالأرقام حتى يتضح المشهد العام. لا زال حوالي 8,5 مليون مغربي خارج الاستفادة من الحماية الصحية بسبب "عدم التسجيل أو وجود حالات تصنف ضمن الحقوق المغلقة" حسب آخر تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (أكتوبر 2024). يضيف نفس التقرير أن الأسر التي تتوفر على تأمين إجباري عن المرض تتحمل 50% من إجمالي المصاريف الصحية. ولا يمكن عدم الإشارة المؤكدة إلى أن أكثر من 95% نفقات أنظمة التأمين عن المرض بالقطاع الخاص، وأكثر من 80% من نفس النفقات بالقطاع العام يستفيد منها مقدمو العلاجات المنتمين للقطاع الخاص. ولا تستفيد المستشفيات العمومية والوحدات الطبية للتعاضديات إلا بالقليل رغم الاستثمارات العمومية في القطاع الصحي. ولكن نوعية الخدمات وصعوبة الولوج إلى العلاجات في المستشفى العمومي تفسر جزءا من أسباب هذا الواقع. وسيظل سؤال حضور الطبيب الموظف العمومي في المستشفى الخصوصي محرجا لكل مكونات المنظومة الصحية.
مررت الحكومات المتعاقبة منذ سنوات كثيرا من القوانين. تم تضمين القانون المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض مقتضيات تناقض الدستور والاتفاقيات الدولية التي وافقت عليها المملكة، وحاول أصحاب "الشكارة" قتل النظام التعاضدي والاقتصاد التضامني الاجتماعي. فتح القانون 13-131 المتعلق بمزاولة مهنة الطب، الباب مشرعا لغير الأطباء للاستثمار. قال أصحاب النيات الحسنة أن هذا القانون سيوسع العرض الصحي. وكان ما كان من الضغط الممنهج للحد من عمل التعاضديات وحصول القطاع الخاص على أكثر من حصة الأسد، وكافة الحيوانات المفترسة، من أموال التأمين الإجباري عن المرض. وقد أكد التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول التغطية الاجتماعية على أن العمل لا زال مطلوبا للوصول إلى أهداف المخطط الاستراتيجي الذي وضعه ملك البلاد. الأسر لا زالت تتحمل الجزء الأكبر من تكاليف العلاجات رغم وجود أنظمة متعددة للتغطية الصحية. وقال هذا التقرير أن تكلفة العلاج بالقطاع الخاص تتجاوز أكثر من خمس مرات التكلفة بالقطاع العام.
ومنذ 2005 والقانون 00-65 المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض يشكل، من خلال بعض مواده، وعلى الخصوص المادة 44، العائق الأساسي لتطوير الخدمات الصحية للتعاضديات بغير ذي وجه حق. ويتم تجاهل هشاشة القدرة الشرائية للأسر وعدم تمكنهم من تسبيق مصاريف الولوج إلى العلاجات. ويتم التضييق على تقديم التعاضديات لخدمة علاجية بأسعار تعاضدية وتوسيع خدماتها لخدمة من يوجدون على هامش الولوج إلى خدمات تتطلب الأموال للاستفادة منها. ويجد هذا التضييق صمتا رهيبا لدى السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويدفع هذا الصمت والتعنت للقضاء على التعاضديات إلى التساؤل حول رغبة مؤكدة لتسليع الخدمات الصحية والقضاء على كل إرادة تضامنية للحفاظ على صحة المواطن. ونجد في نفس الوقت اهتماما كبيرا لأصحاب "الشكارة" لتسليع التعليم بمساعدة الدولة الفرنسية التي تمنح تراخيصها للسيطرة على شبكة مدارس تتسع بشكل سريع. وأصحاب هذه المدارس يبيعون منهجا واسما تجاريا ويفرضون "سلعة" مربحة جدا جدا جدا. وهكذا يتحول المواطن إلى زبون ومرتع للأرباح في قطاعي الصحة والتعليم. وستظل سلع القطاع الخاص مطلوبة ما دامت موجهة لطبقة قادرة على أداء الأموال التي يتطلبها الولوج إلى العلاجات والتعليم المؤدي إلى التميز والارتقاء الطبقي.
وشكلت سنة 2021 منطلقا لفتح كل الأوراش المتعلقة بالتغطية الاجتماعية والصحية. أكد الدستور في مادته الواحدة والثلاثين على الولوج إلى العلاجات. وأكد ملك البلاد على أهمية ثقافة التعاضد في الاستجابة لفئات كثيرة من المغاربة وثمن تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي على أهمية الركائز الثلاث في مجال الخدمات الصحية وتلك المتعلقة بالتغطية الاجتماعية ببلادنا. وتراجع المستشفى العمومي رغم كل الميزانيات، وترك أمر تدبير أزمات كليات الطب إلى زمن التقنوقراط حتى ضاع زمن التكوين، واهتزت أركان الثقة في إحدى المؤسسات ومكتسبات المغرب وهي كليات الطب.
سنظل نتفرج على عملية هدم ممنهج للمستشفى العمومي وللمدرسة العمومية ولأنظمة التعاضد في مجال التغطية الاجتماعية. سنظل نتفرج على هروب كثير من الأطباء جهارا إلى مصحات خاصة. سنظل نتفرج على مواطنين ينتظرون بالآلاف موعدا في مستشفى عمومي. قبل شهور وصلتني وثيقة عن موعد لإجراء "تخطيط للقلب" وصل أمده إلى أكثر من عام. نعم نشاهد أوراشا كبرى، مهمة وكبيرة، ولكننا نريد خدمات صحية كبرى. وعلى من يشك في انتظارات المواطن المغربي أن يذهب إلى المستشفيات الإقليمية والجهوية والجامعية لكي يرى ويكون شاهدا على درجة المعاناة. افيقي يا حكومة "الكفاءات"، ففي عهدك، وحتى قبلك، شهدنا هجوما على التعاضديات، وعلى المؤسسات التعليمية، وعلى القوة الشرائية. لا ندري إن كانت أحزاب الحكومة، أو كل الأحزاب قد ضاقت ذرعا بكل مطالب المواطنين، وأصبحت توزع الأوهام بدل الأعمال. اشتعلت أسعار الدواء والعلاج والولوج إلى التعليم، وظلت الأبواق تصدح بكون المواطن يعيش في بحبوحة عيش كريم. "اللي حشمو ماتو". من يريد تحويل التربية والتعليم والصحة إلى مجرد سلعة، فقط لا غير، يريد بالأساس الإضرار بالمواطن. لماذا نمعن في منع التعاضديات لكي تلعب دورها التضامني حسب ما يحتمه دستور البلاد من أجل العباد.
أصبح كاهل الدولة هو المطلوب لتقديم الدعم لذوي الدخل المحدود. جاهد عاهل البلاد لوضع أسس التغطية الاجتماعية، وعلى كل المؤسسات العمومية والخاصة اتباع منهجه في مغرب يتسع لكل المغاربة وليس لخاصتهم فقط.