عبد الخالق حسين: شباب حي الشيخ محمد لغظف بطانطان يصنعون الحدث

عبد الخالق حسين: شباب حي الشيخ محمد لغظف بطانطان يصنعون الحدث عبد الخالق حسين
يوم الإثنين 23 دجنبر 2024، كان يوماً مشهوداً في حياتي؛ أنا ابن مدينة الطنطان. وهذه اللقطات المصورة من "دار الشباب" الشيخ محمد لغظف، التي تشرف عامل طانطان عبد الله الشاطر بافتتاحها في شهر دجنبر 2024. انطلق الموكب الرسمي يتقدمه عامل الإقليم من بهو العمالة، شق الطريق مرورا بشارع الشاطئ ثم الشارع الذي يقسم الحي المقصود نصفين، نطلق عليه عرفاً شارع المحكمة القديمة.

طوال الطريق، ذكريات الطفولة تنهمر على جمجمتي كحبات (البرد/تبروري) قساوة وبرودة. كنت في طفولتي أعبر هذا الشارع لوحدي أو مع أخي الأكبر كل نهاية أسبوع لنبيت عند جدتي (أم لعيد) رحمها الله، التي كانت تسكن في إحدى زقاق "حي الدوار". لم تكن مرتاحة في بيتنا بزنقة مولاي إدريس بطانطان لحمر، الحي الكثير الحركة والقليل الهدوء. فهي امرأة "بدوية صحراوية" ألفت عيشة الخيام والرك (التيساع)، وتكره هذه البيوت المنغلقة الضيقة في المدينة. كما أنها مربية محترفة للغنم والدواجن والقطط. ولذلك اشترى لها والدي - الذي يحكى عنه أنه كان (مرضي والدته) وكان لا يرد لها طلباً - فاشترى لها (حوشاً) واسعاً أكثر من 900 متر؛ أقول وأؤكد اشترى لها من ماله الخاص، وليس هبة من أحد! ثم بنى لها منزلاً مساحته 100 متر، جدرانه من اللوح الطيني، ومسقف بجريد النخل وبعض الخشب والقصب. وكانت المساحة المتبقية مسرحاً للغنم والدجاج والقطط.3- كنت صغيراً أقضي وقتي بين المدرسة أو الإعدادية أو المركز الثقافي قرب القصر الملكي. ونهاية الأسبوع غالباً عند جدتي في حوشها. فما كنت أقرأه في قصص الأطفال عن القرية الساحرة ورعي الغنم والحلب وتناطح العنزان وصياح الديك وغيرها من مفاهيم ومظاهر البداوة والبراءة والبساطة، كنت أعيشها عياناً وممارسة كل نهاية أسبوع. وكانت امرأة تقية توقظني قبل الفجر؛ وأسمعها ترتل أذكارها ثم تقوم للصلاة. وبعدها تطهو (لحسا لحمر) نشربه قبل الشاي.

تذكرت اليوم الذي سرقت الدراجة النارية لوالدي وهي من نوع (موبيليت) حمراء اللون. بينما الوالد منهمك في الحديث مع رجال القبيلة في مناسبة زفاف بإحدى زقاق عين الرحمة، ودراجات الضيوف متراصة على يسار بيت الوليمة، التقطت المقود واستعنت بدفع الأطفال، وانطلقت الدراجة تسابق الريح. فقطعت شارع عين الرحمة الذي يمر منه اللحظة الوفد الرسمي، ومررت بجانب بناية (الميس/الثكنة)، واستدرت يميناً متجهاً إلى شارع الحسن الثاني ومررت بجانب مسجد المسيرة الذي كان مساحة خضراء نلعب فيها الكارطا في كل ساعة فارغة من التدريس بإعدادية علال بن عبد الله. ثم استدرت يساراً باتجاه شارع بئر انزران ومنه إلى شارع تيكريا؛ لأنعطف باتجاه العمالة قارضاً الخزينة ذات اليمين. ثم رجعت من طريقي جاعلاً ثكنة القوات المساعدة عن يميني؛ لتقع المفاجأة المؤلمة وهي أنني على المنحدر المحاذي للميس فقدت السيطرة على الدراجة النارية وقصدت رأس شاب راجل متجهاً إلى عين الرحمة؛ فصدمته من الخلف لنرتمي نحن الثلاثة على الأرض؛ الدراجة يميناً واستمر محركها مشغلاً، والشاب اندفع إلى الأمام على وجهه. وأنا لا أذكر إلا أنني أخذت حماماً في كثيب الرمل الذي كان يكسو جنبات الطريق. لقد كان يوماً مشؤوماً؛ وكان أول دخول لي إلى الكوميسارية المجاورة لوادي بن خليل.

كما يذكرني شارع الشيخ محمد لغظف/الدوار بالخوف الذي كان يتملكني في الطريق إلى بيت جدتي؛ فمعروف أننا كنا نقضي أوقاتاً في المواجهات بين أطفال الأحياء؛ فلا يستطيع طفل من عين الرحمة مثلاً أن يدخل حي طانطان لحمر وحيداً ولا العكس. في ظاهرة غريبة سألت عنها بعض الأصدقاء من مدن أخرى فقيل لي بأنها كانت عادة منتشرة في كل المدن. وظني المتواضع أنها تعود إلى سياسة نهجها الاستعمار في خطته (فرق تسد) التي تقوم على بث العداوات بين أبناء المدينة الواحدة!

كما أذكر أن من هذا الشارع كنا نشق الطريق صغاراً مع أمهاتنا لحضور (المعروف/الصدقة) الذي كان يقام عند ضريح مولانا الشيخ محمد لغظف رضي الله عنه؛ تصوروا كنا نقطع المسافة من طانطان لحمر إلى المرقد على الأقدام وأحياناً على عربات تجرها الدواب.

المهم اخترق الموكب الرسمي شارع الشيخ محمد لغظف، وعلى جنباته يلتفت بفضول وبنظرة اكتشاف، أناس أعرف وجوه أغلبهم؛ نعم "هم هم" سكان الدوار وعين الرحمة، ملامح رسمها الانتظار ووجوه نقشت على وجوهها الدهشة والاستفسار. انعطفنا يميناً بعد أن مررنا أمام باب مسجد صغير يحد الحي من جهة الجنوب، فإذا بنا نلتقط أصوات أنواع من الأهازيج والأغاني والترحيبات لنقف بساحة محاذية لدار الشباب الجديدة التي سوف يقص خيط تدشينها عامل الإقليم. ولجنا باب البناية الجميلة المزينة بالأعلام الوطنية وصور الملك محمد السادس ليقدم طاقم من الشباب والشابات شروحات وظيفية عن كل مرفق من مرافق الدار. بعدها دخلنا قاعة العروض المكتظة بجمهور من الفتيات والنساء والأطفال والشباب الذين استقبلوا العامل بهتافات تمجد الوطن والملك.

ألقى مندوب الشباب كلمة ترحيبية وتقدمت شابة بلغة عربية فصيحة وابتسامة رائقة تقدم فقرات الحفل؛ لنستمتع بعدها بساعة من عروض المسرح والأناشيد الوطنية ولوحات فنية من أداء الأطفال الصغار.

كنت وأنا أتابع العروض أشعر بنوستالجيا طفولتي ومراهقتي بين دار الشباب طانطان لحمر بجوار بيتنا بشارع ابن سيناء ودار الشباب المسيرة المقابلة لمقر العمالة. كنا نقضي جل وقتنا غير الدراسي ما بين تعلم المسرح ولعبة البينبون وحضور المناقشات الفكرية والثقافية وسهرات البهلوان وغيرها من الأنشطة؛ وهناك كنا نجتمع حاملين حقائب السفر ننتظر الحافلات التي ستقلنا إلى المخيمات الصيفية. المهم أنه لم يكن لدينا الفراغ الذي يسكنه الشيطان ليجرنا لتعاطي شيء من التفاهات والمحرمات التي تبتلع عمر الأطفال في عمرنا. كنت وأنا أتابع عروض أولئك الأطفال والشباب أقول في نفسي: "إننا في هذه اللحظة نغلق سجناً أو مركزاً للإدمان.. إننا نهزم الشيطان.. وننقذ أرواح الشباب.. إننا نضخ الأوكسجين في رئة هذا الحي الهش المنسي بسبب حسابات الوهم بين نخبة الوهم."

قلت للعامل: "هؤلاء الأبطال العظماء المشرفون على هذه الدار والمشاركون بحماس في هذا النشاط يستحقون أوسمة التقدير والاعتراف سيدي." ومن بين العروض المؤثرة عرض قدمته مجموعة من الشباب والفتيات ذوي الاحتياجات الخاصة؛ لقد أبهرونا بأدائهم معزوفة وطنية خاصة بكأس العالم وتفاعل معهم الجمهور حد الجنون؛ لقد أبانوا أن الإعاقة في الحقيقة هي إعاقة بعض العقليات اللامسؤولة وليس هي الإعاقة الجسدية؛ كانوا يؤدون المقطوعة بروعة وأناقة وكأنهم يقولون: "أعطوا الفرصة لهذا الحي المعاق ظاهرياً وسوف يدهشكم بإبداعاته وإنجازاته." إن الإعاقة اختيار وليست قدراً محتماً! لقد عاينت بعيني كم يختزن حي عين الرحمة من الكفاءات والنخب والعباقرة الذين سيكون مصيرهم كجدتي في حوشها.

تحية إكبار لعامل إقليم طانطان عبد الله الشاطر الذي أنجز في "شهرين من تعيينه" على إقليم طانطان ما كان يحتاج تنزيله إلى سنوات.
لقد وجد السيد العامل هذه الدار دار الشباب عين الرحمة مغلقة بعد سنين من اكتمال أشغال تجهيزها فأعطى أمره فوراً بفتحها وإنقاذها.. وكأنه ألقي طوق نجاة لشباب الحي في لحظة غرق في محيط النسيان والظلمات.

حكى لي صديق من أبناء الحي - بعد التدشين مباشرة - قائلاً: "أحسسنا نحن سكان حي عين الرحمة المجاورين لبناية دار الشباب بالفخر والنخوة لقد أصبحت عندنا إدارة تابعة للدولة تقف عندها سيارات الدولة ويدخلها موظفون بربطات العنق وتستقطب الزوار من أطراف المدينة؛ أوه، كم هو جميل الأضواء التي تظل مشتعلة بجوار وعلى أسوار دار الشباب طوال الليل.. لقد فتحت الدار واختفت المزبلة وتجمعات الشباب المنحرف ليلاً هناك.." شعرت كأنه يهم بالقول: "إنها دار الحياة وليس دار الشباب."

نصيحتي لكل مسؤول من أبناء مدينتنا "طانطان" في المرحلة القادمة: أمامنا عمل كثير وجهد عظيم.. "لنكفر" عن "ذنوب وسيئات حضارية". إنها "ذنوب" لا يمحوها الاستغفار ولا العمرة ولا الحج ولا "الركوع والسجود"! وإنما يمحوها العمل الصالح و"الإنجاز" و"خدمة الناس" و"الوفاء بالمواثيق والعقود والعهود".. "إن الحسنات يذهبن السيئات"، صدق الله العظيم. تحياتي.. وعامكم 2025 مبارك؛ يغاث فيه الناس بإذن رب الناس.
 

عبد الخالق حسين، رئيس المجلس العلمي المحلي بطانطان