التدمري: سوريا أو الثورة المرتدة على نفسها وعلى جيرانها

التدمري: سوريا أو الثورة المرتدة على نفسها وعلى جيرانها الدكتور تدمرى عبد الوهاب
إلى أين تسير سوريا كدولة؟ بعد كل ما نشهده من تدخلات لدول أجنبية كان لها الفضل الأكبر في إسقاط النظام السابق. أولا عبر العقوبات الصارمة التي فرضت عليه حتى قبل 2011. وثانيا بعد الدعم الكبير العسكري والمالي والاستخباراتي الذي قدمته هذه القوى للفصائل المسلحة بما فيها هيئة تحرير الشام التي سبق أن صنفتها الأمم المتحدة منظمة إرهابية، وذلك خلال طول مرحلة الأزمة السورية. وأخص بالذكر تركيا المحتلة لأجزاء واسعة في الشمال الغربي من هذا البلد تحت ذريعة محاربة "قسد"، التي تتحكم في منطقة شرق الفرات بغطاء أمريكي المتواجدة قواتها أيضا في الشمال الشرقي وفي منطقة التنف بالقرب من الحدود الأردنية. إضافة الى اسرائيل التي دعمت عناصر من "داعش" ومتطرفين إسلاميين سلفيين آخرين في منطقة درعا والجنوب السوري. وهي كما تركيا تحتل مناطق واسعة في الجنوب بعد أن أسقطت اتفاق وقف إطلاق النار الذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1974. علما أن هذا الاحتلال المتعدد الأطراف لأجزاء عديدة من سوريا من طرف قوى تعد في نفس الآن، هي نفسها من نصبت القادة الجدد في دمشق سيقيد يد من يضطلعون الآن بمسؤولية قيادة المرحلة المقبلة في سوريا. ويجعلهم عاجزين على تحقيق السيادة ووحدة البلاد التي تعد أحد ركائز قيام الدولة الموحدة. ولن أتحدث هنا على طبيعة النظام المقبل هل هو إسلامي أو ديمقراطي لاييكي. لأن شكل الدولة يأتي قبل شكل السلطة. ولأن تعدد الفصائل المسلحة وتنوع مرجعياتها التي تتوزع بين إسلامي متطرف إلى ليبرالي، وتعدد القوى الداعمة والمؤثرة في هذه التنظيمات، إضافة إلى التيارات الوطنية المعارضة التي كانت متواجدة داخل المجتمع السوري في مرحلة النظام السابق. أو حتى تيار الموالاة لذات النظام المتواجدون داخل التراب السوري، يجعل من شكل السلطة ووحدتها مسألة بعيدة المنال. خاصة إذا علمنا أن الدول الداعمة لهذه الفصائل لها أطماع استعمارية في بعض الأراضي السورية، إما لكون هذه الدول تعتبرها أراض تابعة لها تاريخيا كما منطقة حلب بالنسبة لتركيا التي لا تنفي إضافة إلى ذلك رغبتها في إنشاء حزام أمني بعمق 30 كلم في الأراضي السورية لحماية أمنها القومي على طول حدودها كما تدعي، أو لكون بعض الداعمين للحكام الجدد في دمشق كأمريكا وإسرائيل لا ينفون مشروعهم في إقامة ما يسمى بـ "شرق أوسط جديد"، يسمح بتوسع إسرائيل في البلدان المجاورة وتحويل سوريا إلى دولة فاشلة ومقسمة بين أكراد وسنة وشيعة وعلويين. بالإضافة إلى الاستيلاء على الموارد الطاقية لهذا البلد. بالتالي فإن توزع ولاءات هذه الفصائل بين مجموعة من الدول التي كانت تكن العداء المطلق للنظام السابق. والتي لا تنفي رغبتها في تقسيم سوريا، وهي في نفس الآن من أوصلت المعارضة المسلحة بكل فصائلها المتطرفة والمعتدلة إلى القصر الرئاسي في دمشق، ولن أقول الحكم، رغم كل ما تدعيه هذه القوى من شعارات حول مبدأ وحدة الأراضي السورية، وتحرير الشعب السوري من الاستبداد من أجل إشاعة الحرية والديمقراطية. لأن هذه الأطراف الداعمة ليس من مصلحتها استقرار النظام في سوريا حتى وإن كان محمولا إلى دمشق على أكتافها. لأن أي استقرار يعني بالضرورة مطالبة الحكام الجدد جميع القوى الخارجية الانسحاب من أراضيها إلى الحدود الدولية، وإن تطلب ذلك الدخول معها في حروب تحريرية. لأن التفريط في أراضي الوطن يفقد شرعية الحكم والحاكم أمام الشعب السوري. ولن أقول حتى امتلاك مبادئ داعمة لقضايا التحرر وللقضية الفلسطينية، التي ونظرا لطبيعة هذه الفصائل المتطرفة المهيمنة ومتعددة الولاءات. وكذا تاريخها المرتبط بالصهيونية الامريكية والإخوانية التركية، فلا يمكنها إلا أن تكون مهادنة لأمريكا وتركيا والكيان الاسرائيلي ومعادية لكل ما هو تحرري ومقاوم للهيمنة الخارجية.
لكن إذا اعتبرنا أن سوريا أضحت مستباحة لكل هذه الأطراف الدولية المتنافسة على اقتسام أراضيها وثرواتها. وهي نفسها الأطراف التي حملت السلطة الجديدة على دبابتها لتدخل دمشق، فما قدرة هؤلاء الحكام الجدد على مواجهة أطماع من كان لهم الفضل في تبوئهم السلطة؟ وهل يستقيم اكتسابهم شرعية الحكم مع التفريط في السيادة والوحدة الترابية التي يتم استباحتها من هذه الأطراف الداعمة؟ علما أن الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب السوري المتعدد بأعراقه وطوائفه تعتبر من التعقيدات الأكثر خطورة بالنسبة للسلطة الجديدة. خاصة وأن مرجعية الحكام الجدد سنية متطرفة، بالتالي اقصائية، بطبعها لباقي مكونات الشعب، وأن هذا التنوع في ظل الانفراد السني الإخواني والسلفي بالحكم يشكل في حد ذاته استفزازا لباقي الأطياف السورية، وهو ما يمكن أن يشكل أرضية خصبة لاشعال فتيل حرب أهلية طائفية وعرقية تغذيها نفس القوى. أو قوى أخرى خرجت مؤقتا من المعادلة مع سقوط النظام السابق. وهو ما بدأنا نشهد عليه من خلال ما تتناقله وسائل الإعلام، والشهادات حول الإعدامات التي تتم خارج نطاق القانون، والخطابات التحريضية، والتوترات الطائفية، بين الشيعة والعلويين من جهة والحكام الجدد من جهة أخرى إضافة إلى ما تشهده المنطقة الشرقية من سوريا من تحركات عسكرية ومعارك بين الجيش التركي المدعوم من الفصائل المسلحة السنية والسلفية السورية، وبين قوات سورية الديمقراطية المدعومة من أمريكا.
خلاصة القول، ومن خلال ما سبق ذكره يبدو أن الوضع في سوريا يسير نحو الفوضى والاقتتال الداخلي، لأن الأطراف المتدخلة في الشأن السوري الآن، حتى وإن اتفقت على إسقاط النظام السابق، إلا أن أجنداتها مختلفة. وكل طرف غير مستعد للتنازل عن ما حققه من امتيازات على الأرض السورية، ولن تقبل بنظام حكم قوي ومستقر في دمشق يمكن أن يفرض عليها الانسحاب من أراضيه واستقلالية قراراته السيادية. كما أن الدول العربية المحيطة بسوريا التي وقفت على الحياد نسبيا في السنوات الأخيرة، رغم مشاركتها القوية في صناعة المنتوج الحالي في بداية الفوضى السورية، باستثناء قطر التي بقيت مستمرة في دعمها المالي لمجهودات تركيا وأمريكا وإسرائيل من أجل تغيير نظام حكم بشار ضمن رؤية استراتيجية صهيو أمريكية تروم إحداث الفوضى الخلاقة في المنطقة. وليس خدمة لمصلحة الشعب السوري في تحقيق الحرية والديمقراطية. فإن هذه الدول تجد نفسها الآن خارج هذه المعادلة الجديدة. وتستشعر خطورة ما حدث ويحدث في هذا البلد. وأنها مهددة في وجودها وذلك لاحتمالية أن تكون الهدف المقبل لاستكمال مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي خططت له كل من أمريكا الساعية لتقوية نفوذها في هذه المنطقة الجيو استراتيجية. واسرائيل الراغبة في التمدد جغرافيا لتحقيق حلمها التاريخي في اقامة اسرائيل الكبرى. ومن خلفهم تركيا العثمانية الطامعة في الأراضي السورية والعراقية إلى حدود الموصل. لكن ما يغيب عن تركيا هو أنها ستجد نفسها في نهاية المطاف سجينة لما أحدثته من خراب وفوضى واحتلال لبلد تجمعه معها حدود تتجاوز 700 كلم. خاصة إذا أضفنا إلى هذا أن أمريكا وإسرائيل تمتلكان من الأوراق داخل سوريا "النظام" الجديد ما يكفي لجعل تركيا ترضخ لشروطهما في ما يتعلق بمفهوم الشرق الأوسط الجديد وفق الرؤية الصهيو امريكية، وذلك لأن تركيا لم تكن تاريخيا محل ثقة في نظر الغرب الأطلسي.