في خطوة بناءة تعكس عمق الروابط التاريخية والإنسانية الممتازة بين البلدين الشقيقين الجارين المغرب وموريتانيا، تُبْرِز متانة علاقاتهما المضطردة المتنامية والرغبة المشتركة لتفعيل آليات التعاون، استقبل جلالة الملك محمد السادس، يوم 20 دجنبر 2024 بالقصر الملكي بالدار البيضاء، محمد ولد الشيخ الغزواني، رئيس الجمهورية الاسلامية الموريتانية، الذي قام بزيارة خاصة إلى المغرب، هي الأولى من نوعها إلى المملكة منذ توليه الحكم بموريتانيا سنة .2019
الأهمية البالغة والمتميزة لهذا اللقاء الرفيع المستوى، عكسه بلاغ الديوان الملكي، الذي أكد في جانب منه على حرص قائدي البلدين على: «تطوير مشاريع استراتيجية للربط بين البلدين الجارين، وكذا تنسيق مساهمتهما في إطار المبادرات الملكية بإفريقيا، خاصة أنبوب الغاز الافريقي ـــــ الأطلسي ومبادرة تسهيل ولوج دول الساحل الى المحيط الأطلسي».
نظرة جلالة الملك محمد السادس إلى الشقيقة موريتانيا، تتلخص في التركيز على توطيد علاقات التعاون البناء وتعزيز الشراكة الاستراتيجية المتعددة المجالات، الهادفة إلى تقوية وتوسيع وتنويع المشاريع الاقتصادية وتشجيع الاستثمار والرفع من حجم التبادل التجاري وفسح المجال أمام حركية تنقل البشر ورؤوس الاموال، في ظل ترسانة هائلة من الاتفاقيات الثنائية تشكل قاعدة لانطلاق كل هذه المشاريع الواعدة بما يخدم مصلحة البلدين وشعبيهما معا. يحرص جلالة الملك أيضا على التركيز على تعزيز الدور الإقليمي للرباط ونواكشوط في تحقيق التنمية والاستقرار بالمنطقة مغاربيا وغربا إفريقيا، في ظل النظرة السياسية الموحدة والمتناغمة التي يلتقي فيها جلالته والرئيس الموريتاني حول القضايا الإقليمية والدولية. وإذا كانت موريتانيا تمثل بوابة المغرب نحو عمقه الإفريقي، فإن المغرب يشكل جسرا لموريتانيا نحو الفضاء الأوروبي.
كل أسس التوافق البناء والنظرة الاستراتيجية لآفاق التعاون والارتقاء بالعلاقات منسجمة متوافقة، تقطع أشواطها في هدوء ويقين وثبات وثقة متبادلة لبنة بعد أخرى، صعب معه على المتربصين بهذه العلاقات التشويش، خارج الضوضاء والفقاعات الاعلامية الصاخبة، التي تحركها الأبواق الجزائرية.
لا شك في أن زيارة الرئيس الموريتاني للمغرب ولقائه بأخيه جلالة الملك، مثلما ستعزز العلاقات بين البلدين، فإنها من ناحية ثانية سترخي بظلالها قلقا وغضبا وتذمرا على قادة الجزائر، وستشكل إحباطا وضربة قاسمة لكل مناوراتهم لبث الفرقة والتشويش على العلاقات المغربية الموريتانية من جهة، ومن جهة ثانية على مخططات قادة الجزائر المحبطة لضرب اتحاد المغرب العربي، وزرع بذور التقسيم والتشطير والصراع والفتنة بين بلدانه الخمسة. وهنا يبرز التساؤل الاستنكاري، ما الضرر الذي سيلحق بالجزائر جراء هذه الزيارة؟ وما تداعياتها على الشأن الجزائري؟ وقد تم اللقاء بين قائدي بلدين شقيقين جارين انشغلا بقضايا تهم علاقاتهما الثنائية ومصالح شعبيهما وتباحثا فيما يخدم جوارهما الإفريقي، دون أن يلتفتا إلى الجزائر.
لكن المتمعن في سياسة الجزائر في السنوات الأخيرة، سيلحظ أنها أولت بالغ اهتمامها للمنطقة المغاربية التي تراها هشة سهلت الاختراق، للتغطية على فشلها الذريع بعد عدم التمكن من المس بالوحدة الترابية للمغرب، ونجاح الدبلوماسية المغربية في التصدي وإحباط كل مؤامراتها بمختلف المنتديات الدولية والتراجع الكبير لمؤيدي أطروحتها، مما أدخلها في عزلة دولية قاهرة، لاسيما بعد تراكم اعترافات الدول، بما فيها القوى العظمى، بمغربية الصحراء وتأكيدها على حجية ومشروعية مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي وعملي، وإقبال العديد من الدول الأجنبية على فتح قنصلياتها بمدينتي العيون والداخلة، فضلا عمَّا تشهده أقاليمنا الجنوبية من أوراش واعدة للتنمية والتطور والنمو، وتحولها إلى قطب للاستمارات الأجنبية وانفتاحها على محيطها الإفريقي وعلى واجهتها الأطلسية.
التركيز الجزائري على الشأن المغاربي لم يكن بغرض توحيد الرؤى والتقارب والتعاون لمواجهة التحديات الكبرى والاشتغال على ما يخدم التنمية والأمن واستقرار وازدهار الشعوب المغاربية، بل جاء للعبث بالمنطقة المغاربية واستغلال أوضاع بعض دولها المتقلبة كحالة تونس وليبيا في إطار تعزيز نفوذهم الجيوسياسي بالمنطقة، والاعتقاد بأنها ستجد في موريتانيا ضالتها بالاستجابة والانخراط في مخططها التخريبي الهادف إلى عزل المغرب وتطويقه ضمن استراتيجية هادفة إلى منع المغرب من الوصول إلى أسواق موريتانيا وغرب إفريقيا، في فهم قاصر وتقدير خاطئ ومغلوط لموقف القيادة الموريتانية.
كان رهان قادة الجزائر كبير على التباعد المغربي الموريتاني، ومحاولاتهم عبثا استقطاب نواكشوط لصفهم على حساب المغرب ودفعها للانخراط في مخططها للإضرار بالمغرب وعزله مغاربيا وإفريقيا، لكن هذا الرهان لا يتماشى والرؤية الحكيمة للرئيس الموريتاني، وإدراكه العميق بعملية تفخيخ وتأزيم العلاقات المغربية الموريتانية، الذي فنده في أكثر مناسبة وعززه بزيارته التاريخية للمغرب.
ولنا في استغلال نظام الجزائر فرصة استضافته للقمة السابعة للدول المنتجة للغاز في الثاني من مارس 2024، بعقد لقاء قمة ثلاثية، على هامش هذا المؤتمر، ضمت تبون/ الجزائر، قيس سعيد/تونس ومحمد المنفي/ ليبيا، بهدف تشكيل «تكتل مغاربي» جديد بدون المغرب، وقد رفض الرئيس الموريتاني الانضمام إلى أي تكتل مغاربي لا يشمل المغرب. والابتعاد عن هذا النزق الجزائري الذي أملته ظروف العداء والصراع والحسابات الضيقة، دون التفكير الجدي بمآلات ومصالح شعوب المنطقة واستقرارها.
التوجه الجزائري جاء في شكل طروحات فاقدة للشرعية التاريخية، تدعو إلى التشطير المغاربي على شكل تجمع ثلاثي وآخر ثنائي ونموذج رباعي، كأننا أمام عروض بيع وشراء قطع أرضية أو توزيع وجبات سريعة، تـُنِـمُّ عن أن أصحابها لا يدركون مغزى صلابة هذه المنطقة المغاربية الوحدوية وصمودها في وجه أعاصير وتقلبات السياسة ونزوات المال والمصالح والرغبة في التّسَيُد.
درس آخر قدمته القيادة الموريتانية للجزائر والبوليساريو معا، لما اشتعلت أزمة معبر الكركرات قبل أربع سنوات، فقد ظلت متمسكة بمنطق الحكمة والهدوء والاتزان، محتفظة بموقف المراقب وهي المعنية مباشرة بالأزمة. حسابات موريتانيا كانت دقيقة وذكية، فهي تعي جيدا أن الأزمة عابرة وأن المغرب قادر على حسم الموقف متى أراد وكيفما أراد. وأن شغب عناصر البوليساريو طارئ لن يطول، وستعود المياه إلى مجاريها، دون التورط في مواجهة مع عناصر البوليساريو ومن يقف خلفهم. لذلك وعلى ما يبدو، مارست القيادة الموريتانية سياسة ضبط النفس، بما لا يقحمها في الاستفزازات المقصودة بها أيضا. دون أن تغفل نواكشوط عن تنبيه قيادة البوليساريو منذ البداية، بواسطة قائد عسكري، إلى خطورة ما يقدمون بالمنطقة العازلة من مس بالأمن والاستقرار.
وقد صدرت توضيحات حول الموقف الموريتاني من الأزمة، من جانب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ومن وزير الخارجية إسماعيل ولد الشيخ وأيضا من الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية سيدي ولد سالم، تشير جميعها إلى أن موريتانيا ليست طرفا في نزاع معبر الكركرات ولكنها معنية بالصراع كبلد جار، وسيتحول موقفها من الحياد إلى الحياد الايجابي، دون أن تنحاز لأي طرف، مؤكدة على أن الدبلوماسية الموريتانية تسعى من أجل إيجاد حل عادل ودائم ومقبول من لدن جميع الأطراف، بالشكل الذي يؤدي إلى رفع المعاناة عن شعوب المنطقة والدفع بعجلة اتحاد المغرب العربي.
سبق للعديد من وسائل الإعلام الجزائرية أن وجهت انتقادات شديدة لموريتانيا، في طلعات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تتجاوز الأعراف الدبلوماسية، فتطاولوا على الدور الموريتاني من خلال محاولة الدفع بموريتانيا إلى معاداتها للمغرب لاسيما في واقعة الكركرات، والتدخل في الشأن السيادي الموريتاني المتعلق بتفاهماتها مع المغرب.
رسائل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، إلى قادة الجزائر لم تتوقف، منذ أن تسلم مقاليد الحكم بالبلاد عبر انتخابات رئاسية ديمقراطية حرة ونزيهة 2019، فقد حاول إِفْهامهم في أكثر من مناسبة أن موريتانيا لا تخدم أجندة أحد، بل تسعى إلى خدمة مصالحها وأمنها وسلمها واستقرار كيانها أولا والتركيز على البناء المغاربي الوحدوي.
وفي محاولة للارتقاء بالدور الموريتاني البناء والجدي أمام قادة الجزائر، سبق للرئيس ولد الغزواني، في حوار مع مجلة «الاقتصاد والأعمال» اللبنانية، دجنبر 2021، أن أبدى استعداده للوساطة لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب، وأكد أنه «يأمل في أن يأتي اليوم الذي تعود فيه اللحمة إلى اتحاد المغرب العربي، وإرساء التكامل المنشود، تحقيقاً لإرادة الشعوب وتجسيداً لأحلام الآباء المؤسسين». وأضاف أن «بلاده على استعداد للعب دور في استعادة اللحمة بين دول المغرب العربي». وأشار، «بلادنا يمكن أن تلعب دوراً رئيساً في استعادة الروابط». موقف يعكس تمسك نواكشوط بخط الوساطة بين المغرب والجزائر واعتمادها على الحكمة والبصيرة والمساعدة لحل مشاكل جوارها، في مقابل تمسك فارغ لحكام الجزائر بخيار رفض كل الوساطات ونهج خط التصعيد والتوتر والتظاهر بالغطرسة وشعار» نحن القوة الضاربة». وعلى ما يبدو فإن المشكلة التي تعاني منها الجزائر اليوم تتمثل في عدم وجود قيادة حكيمة تملك إرادة سياسية ورؤية مستقبلية ومخطط نموذجي للتعاون وإرادة وعزيمة، قادرة على خدمة الجزائريين أولا ثم جوارها المغاربي.
وتظل موريتانيا وفية لمبادئها الفضلى محافظة على مبدأ الحياد الإيجابي، مع حسابات مصالحها الأمنية والبشرية، ويتميز الموقف الموريتاني بالاتزان المعهود وأخذ مسافة من الصراع المغربي الجزائري، والتركيز بالدرجة الأولى على أمن حدودها وعدم السماح بمناورات وتحركات الجماعات المسلحة للبوليسايو وغيرها على حدودها أو أنشطة التهريب أو أن تتخذ تلك الجماعات التراب الموريتاني منطلقات لهجماتها ضد المغرب، بغرض زرع بدور النزاع واختلاق الأزمات والمضي بالمنطقة نحو حافة الخطر والصراع اللامنتهي.
موريتانيا من جهة أخرى، باتت دولة متقدمة تحول نظامها السياسي في السنوات الأخيرة إلى نظام ديمقراطي، يتم فيها التداول على السلطة بشكل سلمي حضاري مبني على الشرعية والامتثال للقواعد الدستورية وحرية الرأي والتعبير، ونزاهة الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية، وشفافية اقتراعها، ومصداقية نتائجها، ومشروعية واستحقاق الفائز بها، بشكل يختلف تماما عما تابعناه قبل شهرين من انتخابات رئاسية هزلية بنتائج مزورة بكل تونس والجزائر.
لذلك على أصحاب نظرية الاحتواء والهيمنة والتوجيه، الانتباه وتغيير نظرتهم تجاه موريتانيا هذا البلد المغاربي النموذجي، الماضي نحو تحقيق معدلات جد متقدمة في التنمية والتطور الاقتصادي والنمو والازدهار لشعبه وضمان الهدوء والأمن والاستقرار في البلاد. وقيادته على درجة كبيرة من الوعي والثقة والحكمة والبصيرة للتمييز بين من يمد اليد لتعزيز التعاون والسعي لتحقيق المصالح المشتركة، وبين يصادق من أجل خدمته أجندته الخاصة وخلق أجواء الفتنة وتأجيج الصراعات بالمنطقة.
محمد بنمبارك/ دبلوماسي سابق