كان لدينا حديقة صغيرة، مزينة بالعشب الأخضر، وشجرة برتقال تحمل ثمارًا عطرة، وشجرة المزاح بأزهارها الرقيقة، تضفي لمسة من الخضرة على حياتنا اليومية.
للعناية بهذا الجَنّة الصغيرة، استعان والدي برجل متواضع، طويل القامة وذو كرامة، يُسمى العيساوي.
كان مسكنه، إن جاز تسميته هكذا، بسيطًا للغاية.
كان لعيساوي ابن يسمى محمد، صديقي منذ الطفولة.
معًا، اجتزنا سنوات الدراسة، من مدرسة سيدي بن عاشر الابتدائية إلى ثانوية بَطانة.
في ذلك الوقت كانت المدرسة العمومية تضم أطفال كل الطبقات الإجتماعية.
كانت بيننا صداقة عميقة، وأرواحنا تتناغم في ضوء صداقتنا.
لكسب بعض المال ورضا شغفنا بالسينما، كانت لدينا حِيَلنا الصغيرة.
في الصيف، كنت أقدم رأس المال البسيط من مدخراتي. كان الوالد رحمة الله عليه، يعطينا خمسة دراهم لكل ربع من القرآن حفظناه و عرضناه عليه مساءا لما يدخل من العمل.
بالمال نشتري كمية من الهندية، ذلك التين الشوكي الحلو المليء بالأشواك الذي يعشقه المغاربة في فصل الصيف.
كنا نعرضها في أعلى "عقبة بَطانة"، ممر لا مفر منه لكل القاطنين ببطانة.
كان محمد العيساوي،صديقي، بمهارة رائعة، يقشرها رغم الأشواك المؤلمة.
كنت آخد اللب الذي يؤكل وأضعه في طبق أبيض ونظيف، جلبته من المنزل.
ثم كنت أتولى بيعها قطعةً قطعة، جاذبًا عشاق هذه الحلاوة الصيفية.
في نهاية اليوم، بعد أن نبيع بضاعتنا، كنا نتقاسم الأرباح، مما يتيح لنا شراء ساندويتش ربع خبر من المعقودة بالحرور أو تذكرة لدخول سينما الملكي بسلا.
في أيام عاشوراء، كان عملنا يتخذ منحىً آخر.
برأس مال صغير، كنت أقدمه، ننزل إلى "سوق الكبير" في سلا، نشتري الألعاب النارية بالجملة.
ثم نبيعها للأطفال في بَطانة، قطعةً قطعة، محققين هامش ربح ما بيهش.
مع مرور السنين، توسعت آفاقي.
كنت أعبر جسر الحسن الثاني سيرًا على الأقدام متجهًا إلى الرباط، حيث كنت أغرق في صفحات الكتب.
كنت، وما زلت، قارئًا نهمًا.
كنت أزور المركز الثقافي السوفيتي، الذي أصبح اليوم ماكدونالدز، بالقرب من محطة قطار الرباط المدينة حيث كنت ألتهم أكوامًا من الصحف. صحف آخدها في آخر المطاف لبيعها بالكيلو.
كما كنت أزور المركز الثقافي العراقي في حيّ أكدال، جالبًا دائمًا حمولة من القراءات.
بعد أن أروي عطشي للمعرفة، كنت أبادل صحفي بالذرة والفول السوداني مع بائعي المكسرات.
اليوم، أصبح سي محمد العيساوي مفتشًا في التعليم الابتدائي، ينقل علمه وحكمته إلى الأجيال القادمة.
أما أنا فقد صرت طبيبا مهتما بالإعلام الطبي والتربية الصحية.
في صمت الليل، عندما أغلق عيني، أرى حديقتنا الصغيرة ببطانة والتين الشوكي، وصورة صديقي محمد، الذي يعيش اليوم مع عائلته الصغيرة في صفرو، مدينة الكرز "حب الملوك".