أحمد الحطاب: الدعاءُ غير مرتبطٍ لا بالزمان ولا بالمكان

أحمد الحطاب: الدعاءُ غير مرتبطٍ لا بالزمان ولا بالمكان أحمد الحطاب
من غرائب الأمور أن مواقعَ التَّواصل الاجتماعي أصبحت، في أيامنا هذه، تعُجُّ بوابلٍ مما يُسمِّيه كثيرٌ من الناس "الدعاء المستجاب"، أي الدعاء الذي يستجيب له اللهُ، سبحانه وتعالى. 
ومما يُثيرُ الانتباهَ في عبارة "الدعاء المستجاب"، هو أن الصِّيغة التي جاءت بها هذه العبارة، هي صيغة الاسم المُعرَّف، أي عوض أن يُقالَ "دعاءٌ مستجابٌ"، أُضِيفَت لهذه العبارة الألف والام. والألفة والام، في اللغة العربية، هي أداةٌ للتَّعريف، أي أنها، لما تُضاف إلى الاسم النَّكِرة، يُصبح شيئاً مُعيَّنا. وهذا يعني أن إدخالَ الألف والام، أولا على كلمة "دعاء" ثم على كلمة "مستجاب"، جعل من الدعاء دعاءً ليس كالأدْعِية لأنه مستجاب. وهنا بيت القصيد.
فكيف عرف مَن صاغ الأدعِية الموصوفة ب"المستجابة" والمُنتَشِرة في مواقع التواصل الاجتماعي، أن اللهَ، سبحانه وتعالى، سيستجيب لها؟ 

الناسُ الذين صاغوا هذه الأدعِية، ليس باستطاعتهم أن يأتوا ولو بدليلٍ واحدٍ يُبيِّن أن اللهَ، سبحانه وتعالى، استجاب أو لم يستجب للدعاء. وبالطبع، لن يستطيعوا أن يأتوا بدليل واحد لأن الاستجابةَ للدعاء أو من عدمِها تدخل في علم الغيب. والغيبُ لا يعلمُه إلا الله، سبحانه وتعالى. وحتى الرُّسلُ والأنبياء لا يعلمون الغيبَ، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى، مُخاطباً الرسول (ص) : "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف، 188).
 
ثم إن الدعاء وحده غير كافي لطلب الخير، بجميع أشكالِه، من الله. والخيرُ أنواعُه كثيرةً. يمكن أن يكونَ شفاءً من مرضٍ أو توسُّعا في الرزق أو طلباً لمغفرة الذنوب أو نجاحاً في التِّجارة أو في الأعمال… ثمَّ لماذا الدعاء وحده غير كافي؟

لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يطلب منا "الأخذ بالأسباب"، أي اتِّباع الطريق المؤدي إلى الشفاء من المرض أو الطريق المُؤدي إلى التوسُّع في الرزق… وبصفة عامة، أتِّباع السُّبل المُؤدِّية إلى تحقيق الغاية التي تمَّ من أجلها الدعاءُ. مثلا، إذا تعلَّق الدعاءُ بشفاءٍ من مرضٍ، فالسّبب هو استشارة طبيبٍ مُختصٍّ في هذا المرض ليوصِيَ المريضَ بالعلاج المناسب له. في هذه الحالة، يكون الدعاء منطِقيا، أي يستجيب للإرادة الإلهية. أن يستجيبَ اللهُ، سبحانه وتعالى، للدعاء، فهذا أمرُ موكولٌ له عزَّ وجلَّ، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "َفَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" (البروج، 16).
ولهذا، ف"الأدعِية المستجابة" المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي، الغرض منها، إما الحصول على أكبر عددٍ 
من "الايكات" like  وإما الغرض منها تجاري محضٌ. والغريب في الأمر، أن هذه "الأدعية المستجابة" وجَدَت، على نطاقٍ واسعٍ، مَن يُروِّجها بين الناس بدون عقلانية وتبصُّر.
 
أمَّا الكارثة الأخرى المرتبطة بالدعاء، فمُروِّجوها هم شريحة عريضة من علماء وفقهاء الدين الذين يغالِطون الناسَ بأقوالٍ لا أساسَ لها من الصِّحة. وهذه المُغالطةُ تتمثَّل في زعم هؤلاء العلماء والفقهاء أن الاستحابةَ للدعاء لها أوقاتٌ معيَّنة ومُحدَّدة. مثلاً، الدعاء في العشر الأواخر من رمضان أو الدعاء في ليلة القدر أو الدعاء قرب الكعبة أو قرب الحجر الأسود أو قرب بئر زمزم أو الدعاء في الثلث الأخير من الليل أو الدعاء في النصف من شعبان…، هو المقبول. 
 
وهذا يعني أن الدعاءَ مشروطٌ بالزمان والمكان. وهذا غير صحيح، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى :
1."وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة، 186).
2."وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (غافر، 60).
في هاتين الآيتين، لم يربط، سبحانه وتعالى، الدعاءَ لا بالزمان ولا بالمكان. بل إنه، عزَّ  جلَّ، قال "فَإِنِّي قَرِيبٌ". وحتى لمَّا قال "فَإِنِّي قَرِيبٌ"، لم يُحدِّدْ مكان قربِه. وهذا دليلُ واضحٌ على أن الله، جلَّت قدرتُه، موجود في مكان omniprésent. وهذا شيءٌ هيِّنٌ على مَن له، من ضمن أسمائه الحُسنى، صفات "...الْمُهَيْمِن، الْخَالِق، الْعَلِيم، السَّمِيعُ، الْبَصِير، العدل، الْخَبِيرُ، الْغَفُورُ، الْمُجِيبُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، التَّوَّاب، العَفُو، الرَّؤُوفُ، الْغَنِيُّ، القوي…".
وفي الآية رقم 186 من سورة البقرة، ،المُشار إلبها أعلاه، يقول، سبحانه وتعالى "…فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي…". والاستجابة لله والإيمان به مشروطان بتنفيذ ما أمر عبادَه أن يقوموا به لعبادتِه وطاعتِه. ومن ضمن ما أمر به عبادَه، أن يأخذوا بالأسباب قبل كل دعاء.

 
انطلاقا من الاعتبارات السابقةِ الذكرِ، الدعاءُ ليس مرتبطا لا بالزمان ولا بالمكان الُّدُّنيويين. كل مَن أراد أن يتوجَّه لله بالدعاء، فليفعل متى شاء. لكن عليه أن يأخذَ بالأسباب ليكونَ دعائُه مقبولا. وعندما أقول "مقبولا"، فالأمرُ يتعلَّق بالقبول من منطق بشري. والقبولَ من منطق بشري لا يعني الاستجابةَ للدعاء. لأن الاستجابةَ للدعاء، كما سبق الذكرُ، تتحكَّم فيها الإرادة الإلهية.