تسري هذه الأيام كتابات على مواقع التواصل الإجتماعي، بعد تطورات الملف السوري، تبشر بيقين غريب بقرب انهيار النظام الجزائري كتجربة تدبيرية يقال إنها مشابهة لتجربة نظام الأسد. وهذا كلام غير سليم وغير منطقي في واقع الأمور.
تقتضي المسؤولية الإقرار بأمرين:
- أولا:
النظام الجزائري، بعقيدته العسكرية منذ تأسيس الدولة سنة 1962، لا مجال لمقارنته بالنظام السوري أو العراقي أو الليبي، فهو نظام ممركز أنتج آليات حكم صلبة (قد يتفق المرء معها أو يختلف، قد يمجدها البعض قليل وينتقدها عن حق كثيرون). بالتالي فهو نظام من الوهم الترويج على أنه متهالك أو ضعيف، خاصة أنه ظل دوما ينتج نخبه الساندة له مجتمعيا على مستوى مختلف شرائح المجتمع الجزائري. وكونه يسير في الطريق الخطأ ضمن مجاله المغاربي والشمال إفريقي، وأن سياساته تتأسس على منطق التصادم مع محيطه الجغرافي إفريقيا ومتوسطيا، فهو لا يلغي أنه نظام سياسي مسنود بآلية للدولة بعقيدة عسكرية شبيه في مستويات معينة بالتجربة المصرية. وسيكون من الخطأ إيهام أنفسنا بغير ذلك من خلاصات غير مسنودة بمعطيات الواقع.
صحيح أن الأزمة الإجتماعية كبيرة في الجزائر، وأن التفاوت بين الثروة والرفاه الإجتماعي المحقق لكرامة المواطن الجزائري كبير وهائل ومقلق داخليا، لكن ذلك لا يمكن أن يحجب عنا أن النظام صلب ومسنود داخليا ضمن نسيج مجتمعي له شرائحه من النخب ومن المجتمع. وأنه بالتالي يجب التعامل معه بكل الجد اللازم على مستوى ما تشكله خياراته الصدامية مع محيطه من مخاطر على مجالنا المغاربي والمتوسطي.
إن التحدي الأكبر في المسألة الجزائرية ليس فقط خيارات النخب الحاكمة على مستوى الدولة، بل ملامح "قلق الهوية" التي تميز الفرد الجزائري ضمن صيرورة تاريخية أكبر، عنوانها مواجهته تحديات تحولات تاريخية مرتبطة بمعنى "القومية الوطنية"، التي تخلق وعيا بالذات يحركه إحساس ب "التأخر في الزمن" لاستحقاق "هوية قومية" (بالمعنى الذي كتب عنه مطولا مالك بن نبي منذ سنوات). وأن ذلك النسيج المجتمعي المشكل من نموذج للفرد قلق في وجوده، طامح للتقدم كحق إنساني، يخلق طقسا نفسيا للوعي بالذات تحركه سرعة جارفة لترسيخ هوية قومية ولو على حساب حقوق الغير في محيطه وفي جواره.
إن ما لا ننتبه إليه كثيرا هو أن النظام الجزائري بعقيدته العسكرية واع بهذا المعطى، بل أكثر من ذلك إنه يغديه، ويخلق له آليات إنتاج متعددة الأذرع تتقنها أجهزة الإستخبار ويوفر لها الميزانيات الضخمة اللازمة.
إن استحضار تداخل كل هذه المعطيات الجزائرية المخصوصة، التي يفرزها واقع تحول تاريخي لمعنى "القومية الجزائرية"، هو ما يدفعنا إلى الجزم أنه لا يمكن الإستكانة إلى التحليل الكلاسيكي للرهان على التحول المجتمعي من أجل التغيير في الجزائر. فمن ينتظر التغيير هناك عبر قوة ضغط مجمتعية خاطئ في الحالة الجزائرية. فخميرة التغيير المأمولة غير ناضجة مرحليا هناك، بسبب أن "أزمة الهوية" ضاغطة بقوة، وأن طموح الفرد لاستحقاق "هوية قومية وطنية" غير مسبوقة في تاريخ الناس والأرض، تجعله يعيش توزعا غير بسيط بين "الحق في الرضى على الذات" وبين "السبيل لإنجاز التحول كأمة" بمنظومة قيم غير متخاصمة مع دفتر التحملات الأخلاقية للقيم الكونية والإنسانية (من هنا ذلك القلق العالي عند الفرد الجزائري بالعلامات الثقافية كعناوين حضارية، الذي يلعب عليه ضمن هندسة سياسية تأطيرية النظام الحاكم).
بالتالي مرحليا (بمعنى اللحظة التاريخية) الجزائر ستبقى هي الجزائر بنظامها السياسي ولعبة ممارسة الشأن العام بها، حتى تحقيق "الإشباع الهوياتي" الذي لا يهبه سوى تبلور تراكم للرضى على معنى "للهوية القومية الوطنية" بخطو التاريخ. وهذا له كيمياؤه الواجب زمنيا.
- ثانيا،
علينا مغربيا أن نرفع دوما أكفنا إلى السماء أن لا تسقط الدولة الجزائرية في المجهول، لأن من سيؤدي ضريبة ذلك هم نحن المغاربة.
هو توازن مثير لكنه حيوي بيننا وبينهم. وإذا كانت بعض النخب الجزائرية تخطط عبثا منذ استقلال بلادها لإضعاف دولة المغاربة (المالكة لكل عناصر قوة "الهوية القومية الوطنية" حضاريا المتراكمة عبر التاريخ منذ 14 قرنا)، فهي غير مدركة أنها بذلك أشبه بمن يوجه الرصاصة إلى رأسه، لأن إسقاط المغرب هو إسقاط للمنطقة كلها، وأن تفتيت المغرب هو فتح طريق سيار لتفتيت الجزائر بسرعة جنونية.
بالتالي ليس من مصلحتنا مغربيا انهيار الجزائر لأن علاقتنا معها عضوية سيامية. نعم ليس هناك تعقل الآن في تلك الضفة بسبب ضبابية الرؤية عندهم الذي تخلقه "أزمة الهوية القومية الوطنية"، ولا سبيل سوى للتعايش من جهتنا مع هذا الواقع الذي لا يرتفع، بكل ما يفرضه ذلك من "دفتر تحملات انتباه" عندنا، لا يُعطِّلُ مسار مشروعنا المجتمعي التحديثي التراكمي (بكل مكبلاته وأعطابه الذاتية الخاصة بنا)، حتى يتحقق التحول الجيلي في الوعي بالذات هناك. فهو قادم بقوة منطق التاريخ.
إن من عناصر الوعي بالذات (مغربيا) أن ندرك أن واجب التاريخ يفرض علينا أن نكون أنزع للتعقل والهدوء والصراحة مع أنفسنا ومع إخوتنا في الجزائر. لأنه مؤكد ستهديهم السماء ذات وعي إلى سواء السبيل.