انتبه الساسة إلى دور الثقافة من أجل كسب معاركهم في الداخل، لذلك سارعوا إلى احتوائها، وبعدما انسحب الجيل الأول من الكتاب عن المشهد، وجاء جيل آخر عقب 5 أكتوبر الأول 1988، وهي السنة التي انتهى فيها الحزب الواحد، تحركت ماكنة جديدة في تكريس المناهج القديمة، ومن بين أساليبها، الترويج للجيل الأول، بحيث أن غالبية التكريمات التي يحظى بها كتاب في الجزائر، إنما هي تكريمات تخص كتاباً خدموا الحزب الواحد، تقام باسمهم ملتقيات، ويطلق اسمهم على منشآت، يعاد طبع أعمالهم، التي أدرجت كذلك في الكتب المدرسية. ثم ترسخ اعتقاد أن الكاتب الجيد في الجزائر، هو كاتب يسير على نهج الجيل القديم. يكتب مثلهم ويتبنى مواقف مثلهم، ويعلن الحروب ضد من ينتقد أو يعترض أو يمارس حقه في حرية الرأي.
لكن التهم القديمة بالإمبريالية أو الرجعية لم تعد صالحة، فالعالم تغير، وتوجب ابتكار شائعات جديدة، على رأسها «التخوين»، التي ترددت بكثرة في الماضي، بينما في الآونة الأخيرة طرأت تهم «العمالة»، «محاباة الغرب» «خدمة أجندات أجنبية».
هناك العشرات من كتاب جزائريين ألصقت بهم هذه التهم، لأنهم ببساطة خالفوا السائد ورفضوا الانصياع إلى آراء الغالبية. لقد عمت فوضى في المفاهيم وأعمت العقول، وتحول الكاتب في الجزائر إلى جندي، يكرس وقته في خوض حروب ضد من يكتب، بل أن ينشغل في شؤون الكتابة. تنازل عن حقه في الشك وبات ضحية للسوشيال ميديا. يسير في هوى ذباب إلكتروني، متنازلاً عن حقه في التريث. صار يمعن في المغالاة، في الإساءة إلى كتاب من مواطنيه، ويطلق الأحكام بدل أن يدعو إلى التفكير.
ناطقاً باسم شعب
في مطلع التسعينيات، مع صعود الإسلام السياسي في الجزائر، ظن بعض الكتاب أن الإسلاميين في طريقهم إلى حكم البلاد، فانضموا إليهم في نشر مقالات مساندة لهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن الأوضاع سرعان ما انقلبت وأزيح الإسلاميون من الواجهة، ففقد الناس الثقة في جيل 5 أكتوبر 1988، وهو جيل كان متقلباً في رؤاه، ثم دخلت البلاد دوامة عنف، أطلق عليها العشرية السوداء، التي أفرزت جيلاً جديداً لا يؤمن بالشعارات السياسية، جيل يواجه العبث بالكتابة، بالإخلاص إلى الأدب. جيل أنهكته سنين المجازر ودماء الأبرياء التي سالت في الطرقات. جيل يكتب بالعربية ويدافع عنها في جماليتها وليس بوصفها نقيضاً للغة أخرى.
وعندما شعرت الأجيال السابقة أن البساط قد سحب من تحت أقدامها، بادرت إلى التقليل من شأن الجيل الجديد، بإطلاق مصطلح «الكتابة الاستعجالية»، وهي كلمة تضمر استخفافاً بمن يكتب عن العشرية السوداء. ثم بالقول إن الجيل الجديد لم ينضج، وكأن النضج يحسب بسنوات العمر، مع أن كبار الكتاب أصدروا أهم أعمالهم في سنوات مبكرة من أعمارهم. كما إن المأزق الآخر الذي يواجه الكتاب الجدد في الجزائر، أنهم لا ينتمون إلى أي تيار سياسي، بالتالي يصيرون محل النيران كلها. فالجميع يريد من الكاتب أن يصير ناطقاً باسمه. السلطة تريد منهم أن يصيروا ناطقين باسمها، الإسلاميون يريدون ذلك كذلك، ومثلهم يفعل اليساريون.
لكن الكاتب يدافع عن حريته، عن حقه في اللاانتماء، لذلك فإنه يتعرض إلى شائعات من الأطراف كلها. السلطة تنعته بالخائن، الإسلاميون ينعتونه بالمرتد، اليساريون يلصقون به تهمة العمالة للخارج، وهكذا دواليك. فقد صارت الكتابة مهنة خطيرة في الجزائر. وبما أن دستور البلاد قد خرج من قاعة مظلمة، فنحن ننتظر الخروج من العتمة إلى النور.
أن تصير الكتابة مهنة مستقلة، لا تخضع إلى تجاذبات أو استقطاب، أو إلى حروب خفية يدفع ثمنها الكاتب. أن يصير الكاتب محل نقد، أو نرد على قوله أو كتابته، فذلك من حق الجميع، لأن من شعارات الجزائر هي الديمقراطية، أما أن يصير محل تشهير وإساءات، فذلك لا يسيء إلى الكاتب في حد ذاته، بل إساءة إلى الأدب في الجزائر في مجمله. فمتى يستعيد الكاتب حريته، من غير أن تنهمر على رأسه الشائعات ولا تنصب له المشانق على السوشيال ميديا؟
المصدر: القدس العربي