يواصل مركز رقي للأبحاث والدراسات بمكناس مسيرته العلمية للتعريف بالحاضرة الإسماعيلية، حيث أصدر كتابه الرابع عن المدينة بعد كتاب " مكناس عبر التاريخ"، و"مؤسسة الصلاح بمكناس"، و"السيرة النبوية بمكناس"، حيث أصدر كتابا جديدا يحمل اسم "ساحة الهديم بمكناس مستودع التاريخ والثقافة" في 164 صفحة من الحجم الصغير لمؤلف محمد البركة.
ويتضمن الكتاب أربعة فصول، حيث خصص الفصل الأول لساحة الهديم باعتبارها مستوع الأبواب ومرفأ الأعتاب ( باب زواغة، باب عيسي، باب المنصور، باب الأنوار، باب زين العابدين .
أما الفصل الثاني فخصصه الباحث لبعض المعالم التاريخية التي تقع بالقرب من الساحة، والأحداث التاريخية التي كانت ساحة الهديم مسرحا لها وأبرزها معركة واد بوفكران سنة 1937 ضد المستعمر الفرنسي.
في حين خصص الفصل الثالث لساحة الهديم باعتبارها منهل للثقافة ومشتل للفرجة. أما الفصل الرابع فقد خصص لبعض المقالات المنشورة في هذا والتي تطرقت لمعمارها الغني وقيمتها الاستثنائية العالمية.
وحسب البركة، فإن هذا الإصدار جاء جوابا على الوضعية التي عاشتها الساحة قبل الترميم وبعده، ذلك بأن أول انطباع تثيره ساحة الهديم بمعالمها المعمارية الكبرى عند أول زيارتها، هو كونها مثلت مركزا للسلطة وعنوانا للسلطان، في تعبير صريح يشد الانتباه، وهو إحساس قد لا يستشعره المكناسي الذي اعتاد مشاهد الفضاء، لكنه إحساس يلف الآخر لحظة الوقوف والوصل بين الساحة ومكوناتها، حيث أسهم رصيدها من التراث المعماري والثقافي الذي تزخر به في جعلها من أهم الأماكن التي تجلب الزائر والسائح، وتدفعه للتوقف عندها، فهو فضاء فسيح محاط بالأسوار الإسماعيلية والأحياء المرابطية والموحدية والمرينية، فضلا عن القصبة المولوية.
وحيث الأشكال الفرجوية المختلفة، والاحتفالات الاستعراضية المتنوعة، التي تملأ الفضاء في العشي والليل، والتي تُحدث فيه من الحركية والحيوية ما يستقطب ساكنة المدينة قبل غيرهم، لما يصلهم بها من وطنية صادقة احتضنت أحداث الدفاع عن ماء واد بوفكران وقدمت الشهداء من أجل أن تبقى المدينة آمنة بخيراتها وهويتها.
واستيعاب ساحة الهديم لعدد من التظاهرات الدينية والوطنية والثقافية الموسمية التي كانت تقام بها وستظل، وكذا لمجموع مظاهر التنشيط الثقافي والفني اليومي الذي كانت تقبض عليها وما زالت، هو ما جعلها عبر التاريخ المحلي والوطني رمزا للمدينة، خاصة وأن خلفها باتجاه باب المنصور قصورا سلطانية ومساجد دينية وأضرحة أميرية، ومؤسسات مولوية، وأمامها باتجاه سقاية قعر الهديم مدينة عتيقة تحتضن تحفا معمارية ومعالم من حقب زمنية متوالية (مرابطية وموحدية ومرينية)، تدعو لزيارتها ومشاهدتها.
وأشار الباحث البركة في تصريح لجريدة " أنفاس بريس " أن مسؤولية الحفاظ على ساحة الهديم، وتدوين بعض من تاريخها وتراثها الثقافي والمعماري هو الداعي إلى تسطير هذه الصفحات، من أجل توفير رصيد مكتوب عن معلمة عرفت بمكناس كما عرف بها المنصور للأجيال القادمة، مضيفا بأن الأمر يتعلق بمعلمة تاريخية عريقة صامدة، عاشت محطات تتراوح بين المجد والتردي، لكنها بين كل ذلك تخرج قوية وقد تجدد حضورها، شامخة وقد سما شعاعها، فهي مستودع مفصح عن الماضي، ومتحف شاخص مفتوح في الحاضر، ومورد ملهم لصناعة المستقبل، يعرض للتاريخ والثقافة منثورة لوحاتهما في الأبواب والأسوار والأحداث، ومسطورة رموزهما في الزخارف والفنون والكتابات، ومنظورة صورهما في الألعاب والأنغام والحكايات، فهي الوعاء المتفاعل الذي ينبض بالحياة، والحيز الشاسع الذي لا ينضب بالقيم؛ إذ الأمكنة هي الصورة الفعلية الحاملة للمواقع والوقائع، والوجه الحقيقي المعبر عن المنقول من غير تهوين ولا تهويل.
وقال محاورنا إن بطحاء الهديم بحاجة إلى شيء أكبر يحافظ عليها ويصونها، ويعرف بها وبتاريخها، قد يكون كتابا أو متحفا للصور أو حتى لوحات للتعريف، وقد يكون فضاء لذاكرتها الغنية بالأحداث والرجالات والزيارات ...، لكن ذلك وغيره لن يتحقق إلا بإحداث مؤسسة مستقلة تُعنى بغناها المتنوع، فالتئام عدد من المقومات المعمارية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ... بالساحة، كاف لإحداث مؤسسة جامعة بين التاريخ والثقافة، وبين التراث والذاكرة، فمن لهذا الأمل؟
وفيما يتعلق بالإهمال الذي يطال ساحة الهديم بين الفينة والأخرى، أشار البركة أن هذا الإهمال الذي تعرفه بين الفينة والأخرى، أو حتى الذي يمكن أن تعرفه لاحقا تحت مسمى الإصلاح، سيظل جزءا من تاريخها، أو كما يعبر البعض، حظا من اسمها، لكنه سيظل من جانب آخر مُعبرا عن كبير اهتمام بها، حيث رصيدها التاريخي والتراثي يفرض حضورها القوي في أغلب المشاريع التنموية حتى الفاشلة منها، دون أن تتجاهلها برامج المجالس المنتخبة أو مشاريع الإدارات القطاعية المحلية، أو مبادرات الإرادة الأهلية، فتاريخها – يضيف محاورنا - عصي عن الطمس، وإشعاعها عصي عن التجاهل أو النسيان، يكفي أنها عرفت في ظرف قرن من الزمن حوالي ستة مشاريع إصلاحية، وهذا دليل كاف للتعبير عن مكانتها، فلو كان لتدبير الشأن المحلي رؤية استراتيجية واضحة المعالم لكان لساحة الهديم كل التألق بفعل التراكم الإيجابي المتوقع حضروه من مختلف المشاريع التي مرت بها، ولكانت ساحة ذات مواصفات عالمية بعمق مغربي أصيل متجذر في التاريخ.
وختم البركة حديثه مع " أنفاس بريس " بالقول إن درر مدينة مكناس وجواهرها المعمارية لم تَكشف بعد عن مفاتنها، فهي رصيد الوطن وذخيرته التي " لا يفنيها تطاول الأزمنة والدهور"، فبعد خمس سنوات من تاريخنا الهجري سيحل على افتتاح ساحة الهديم ثلاثمائة وخمسين سنة، داعيا الى تنظيم احتفالية وطنية كبرى تعيد للساحة توهجها بعد أن ضاعت عنها فرصة افتتاحها بتاريخ يوليوز 2024 .