محمد بنمبارك: الدبلوماسية الملكية والزمن الضائع بالجزائر

محمد بنمبارك: الدبلوماسية الملكية والزمن الضائع بالجزائر محمد بنمبارك

المُتَمَعِّن في خارطة طريق الدبلوماسية الملكية وتدرج تحركاتها واختياراتها على مدى ربع قرن، سيلمس نهجها التصاعدي وانسجامها المتناغم والمتوازي مع المكاسب التي تتحقق على الأرض مرحلة بعد أخرى/ خطوة خطوة على الصعيدين القاري والدولي وأيضا بالعلاقة مع الجزائر، والتي تفيد أن منهاج عمل جلالة الملك محمد السادس في تدبير ملف الوحدة الترابية يحمل خاصية التفكير العميق والدقيق والقوة الاقتراحية والمبادرة الاستباقية.

 

لذلك يلاحظ أن الخطب الملكية تتم صياغتها بناء على تقدير للظروف الكائنة، ورصد الظروف السابقة والتنبؤ بالظروف المقبلة، وإرساء قواعد التخطيط الجيد المحكم المؤدي في النهاية إلى قلب الاوضاع رأسا على عقب، وتغيير التوجه العام لقضية الصحراء بما يخدم المصالح الوطنية ويعزز الطرح المغربي دوليا، ويجرد الخصم من أوراقه. فلا استباق لأحداث ولا وعود للاستهلاك، بل الخطب الملكية عكست رؤية استراتيجية واضحة المعالم، مبنية على مبادئ ومحددات قوامها الاعتدال والتهدئة والجنوح إلى الحلول والمساعي لتطويق الصراع والدعوة إلى التعاون والتكامل والتضامن، رسالة " اليد الممدودة".

 

ماذا بعد كل هذا الارتقاء بالخطاب والتسامي في الدعوة المفتوحة على كل الواجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والأمنية، خُطَب انتصرت للغة السلام والحوار والتفاهم والتفاوض دون قيد أو شرط. لكن حقيقة دعونا نقولها بصراحة: "ما نَفْعُ العِطر، إذا كان العفن في كل مكان؟".

 

فالملاحظ أن حكام الجزائر أخطأوا فهم وتصور نداءات صاحب الجلالة، وذهبوا إلى تحليلها بتلك السذاجة التي حملتها تعليقاتهم وردودهم بالتظاهر والتعالي الأجوف الاعتباطي لدرجة اعتقادهم بأنهم حلول المغرب وعصا عجلته وتفسيرها كنوع من اللين والتراجع والمهادنة المفرطة، متشبثين بتكرار نفس الاسطوانة واجترار الإحباطات الماضوية وانحصارهم الزماني والمكاني.

 

فكان عليهم أن ينتبهوا إلى أهمية دراسة مسألة الصلاحية لكل زمان ومكان لأطروحتهم التي أطلقوا لها العنان بلا قيد أو شرط أو مراعاة للمتغيرات وطبيعة الخصم وصيرورة النزاع وانقلابات المشهد الدولي، فحشروا أنفسهم في تلك النظرة السوداوية الضيقة التي ترى المغرب عدوا فأغلقوا الأبواب على أنفسهم قبل أن تغلق في وجه الجار. ولم يساعدهم هذا التصور في التفكير المتحرر من الإرث الثقيل الذي خلفه الرئيس الراحل بومدين ومن عقدة الماضي البائد، ومن طروحات تقرير مصير الشعوب والأفكار والخطابات الثورية التي زال أثرها وانمحق جاهها.

 

لم يتباطأ جلالة الملك في الرد على رعونة موقف حكام الجزائر وقصر نظرهم في التعاطي مع رسائله السلمية، فجاء التحول في الموقف عبر خطابه بمناسبة الذكرى 49 للمسيرة الخضراء، والذي انتقل فيها من لغة المهادنة وحسن الجوار والتوافق والحوار، الى خطاب الصرامة والشدة والقوة والتحدي في خطوة تعني سحب اليد الممدودة. بعدما نَفَدَ صبر جلالته وتأكد أن جزائر اليوم الغارقة في مشاكلها الداخلية ومحنتها الخارجية إقليميا ودوليا، غير قادرة ولا مستعدة ولا جاهزة للارتقاء إلى مستوى نداءاته، في ظل هيمنة العسكر على الحكم ورئيس دولة مغلوب على أمره، وغياب نُخب سياسية قادرة إنقاذ الجزائر من وَحْلِها واتخاذ زمام المبادرة.

 

خطاب الملك محمد السادس لم يأت من فراغ، بل جاء تتويجا للنجاحات التي حققتها الدبلوماسية المغربية بمختلف المنتديات الدولية والقارية والاممية، بالاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتوالي الاعترافات الأمريكية والاسبانية والفرنسية وبقية الدول الاوروبية ومعظم الدول العربية والعديد من الدول الافريقية ونجاح دبلوماسية القنصليات العربية والافريقية بمدينتي العيون والداخلة، والانتشار الواسع دوليا لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، التي باتت الحل السلمي الوحيد الواقعي والعملي لإنهاء هذا النزاع المفتعل. وأيضا بعد تحصين الحدود المغربية وحمايتها شرقا وجنوبا، وتحويل المركز الحدودي مع موريتانيا "الكركرات" من مجرد معبر إلى قطب استقرار وتجارة ومال وخدمات وإدارة وسياحة وتنقل مسافرين برا على طريق مُعَبَّد آمن منفتح في اتجاه العمق الإفريقي وموريتانيا.

 

رسالة جلالة الملك إلى قادة الجزائر، حملت في طياتها معاني ومضامين سياسية بالغة الأهمية، تفيد أن مبدأ الدفاع الذي تبناه المغرب لسنوات طويلة قد تغير، فكان مضطرا أمام الإمعان الجزائري في العداء والانشغال السيء والمقيت بالمغرب والإصرار على محاولة تقسيم ترابه الوطني المقدس، إلى التحول لموقع الهجوم بمنطق الدفاع وصد الخطر وحماية الوطن. وبذلك فالمهلة التي منحها جلالة الملك لحكام الجزائر للالتفات بجدية إلى إعادة بناء علاقات ثنائية جيدة وتجسير فجوة الخلافات، قد طواها المغرب إلى حين.

 

لقد كانت هذه المهلة، بمثابة طوق نجاة للتفاف نظام الجزائر على نكساته وإعادة النظر في أسلوب ومخطط تدبيره لملف العلاقة مع المغرب ونزاع الصحراء، لاسيما بعد وصول هذه القضية أشواطها الأخيرة، معززة باعتراف دولي لا مجال للتراجع والتلاعب أو إعادة النظر، فهذه الاعترافات الدولية وازنة مُؤَسِّسة وموثقة بسجلاتها الرسمية وسجلات الأمم المتحدة.

 

ذهبت الدبلوماسية الملكية بعيدا حين دمج جلالة الملك من ناحية مشروع التنمية بالأقاليم الجنوبية بالشراكات الإفريقية، فجاء المشروع الاستراتيجي لأنبوب الغاز المغرب – نيجيريا، كما تم إطلاق مبادرة إحداث إطار مؤسسي، يجمع الدول الإفريقية الأطلسية الثلاثة والعشرين، بغية توطيد الأمن والاستقرار والازدهار المشترك، ومبادرة أخرى على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي. على أساس أن كل المشاكل والصعوبات، التي تواجه دول منطقة الساحل الشقيقة، لن يتم حلها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط، بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة.

 

رسائل جلالة الملك لازالت مطروحة ومعروضة على قادة الجزائر بخيرها وشرها، وخير مثال أنه لم يقطع الطريق عن بلادهم بالمرة، بل فسح المجال لمن لديه الرغبة في الوصول إلى مياه المحيط أن يطرق أبواب الرباط في إطار التعاون الإقليمي المنشود، وهناك رغبة حقيقية في رؤية المَخْرَج الجزائري.

 

الجزائر فقدت الكثير من حلفائها ومن أوراقها، رغم كل الاهتمام والتعلق والتشبث الأعمى بالقضية، ويبدو حقيقة أن حكام هذا البلد الجار لم يواكبوا تطورات ملف الصحراء بعين فاحصة متنورة منفتحة وبراغماتية، فلم ينتبهوا جيدا لمغزى وأبعاد الأفكار والاقتراحات المتوالية التي عرضها الملك محمد السادس في خطبه. ولم ينظروا بِحِس ووعْي ونقد ذاتي لمواقفهم المتخلفة عما يجري على أرض الواقع من تحولات سياسية متقدمة على الساحة الدولية. فظلوا سجناء فكرة إطالة أمد الصراع ومعاكسة كل مساعي التوصل إلى حل، والتنكر لأية مسؤولية تربطهم بالنزاع، والاستمرار في تصعيد لهجة العداء ضد المغرب، في اعتقاد مغلوط أن هذا النهج سيخدم أجندتهم ويعطل أهداف المنتظم الدولي ويعرقل المشروع المغربي.

 

فكيف سيتدبر قادة الجزائر هذا الملف الشائك أمام شعبهم وقد تورطوا فيه إلى أبعد الحدود، دون أي تفكير مسبق في خط الرجعة، هل بالإقرار بالهزيمة ورفع يدهم عن القضية وعقد اتفاق سلام الشجعان، أم باللجوء إلى الخيار الصعب والمعقد المُحْبِط، لاسيما وقد شرعوا في الدفع بقوة بميليشيات البوليساريو، التي أشهرت ورقة الحرب ضد المغرب منذ نوفمبر 2020، والتي لم تتردد في الهجوم مؤخرا على المدنيين داخل التراب الوطني، رغبة في تصعيد التوتر وخلق أجواء الحرب.

 

ولعل القارئ يتساءل اليوم عن مصير جبهة البوليساريو؟ بعد أن أنهك السير صانعها ومُدَبِّر شأنها. في ظل وضعية شاذة أصبح معها كل واحد منهما عِبْئا على الآخر، وعن كيفية فك لغز التخلص؟

 

تسعى الجزائر اليوم بجهد كبير إلى قهقرة الزمن وتعطيل آلـة التسوية النهائية، كَمَنْ يريد أن يَصُبَّ فوق هرم النزاع الاسمنت حتى لا يُغَـيٍّر فيه أحد شيئا. لم تتمكن الجزائر بعد من إدراك أن القضية ماضية في سبيلها إلى الحل، تتغير وتتطور ودول العالم تتجاوب مع مبادرة الحكم الذاتي وتعترف بالسيادة المغربية على الصحراء، وتنخرط في أوراش ومشاريع التنمية والاستثمار بالأقاليم الصحراوية.

 

لا شك أن الجزائر تدرك جيدا أن المغرب طور في السنوات الأخيرة بشكل كبير آلياته الدفاعية العسكرية، وأوجد استراتيجيات المقاومة لصد أي اعتداء، لكن المغرب لن يلجأ إلى هذا الخيار إلا مُكرها. وكما يشهد العالم، فإن المملكة لم تنتصر بآلة عسكرية بل بشعلة الاجماع الوطني وبدبلوماسية الحكمة والهدوء وضبط النفس والتريث والقوة والعزيمة والدينامية للمغفور له الملك الحسن الثاني وجلالة الملك محمد السادس، اللذين مكنا المغرب من تجاوز سنوات العجاف والانتقال كلية من مرحلة التشكيك إلى اليقين والانتصار للقضية الوطنية.

 

محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق