نصف قرن إلاّ سنة مر على تَيَمُّم 350 ألف مغربي برمال قطعة ترابية منهم وإليهم ، اغتصبها من أهلها زمن الغطرسة الاستعمارية والاستقواء على الشعوب المستضعفة ، المستعمر الاسباني ...اشتعلت المقاومة بربوع الوطن إلى أن استرجعت بلادنا سيادتها على ترابها من دون بعض المناطق ، منها الصحراء المغربية التي ظل المستعمر يقبض عليها بالحديد والنار .... لكن معركة الجهاد الأكبر التي أعلن عنها المغفور له الملك محمد الخامس يوم عاد وأسرته من المنفى ، ظل لهيب نيرانها متقدا ....مياه كثيرة ستجري تحت جسر الوطن ما بعد الاستقلال بكلفتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الغالية ، لكنها لم تنل قيد أنملة من حماس وعزيمة استكمال مشروع استرجاع ما ظل المستعمر الاسباني يغتصبه من التراب الوطني ....
أتذكر من بين ما أتذكره ، كيف كانت مشاركتي العفوية وأنا تلميذ ، في مختلف الاحتجاجات التي عرفتها مدينتي وزان التي تردد اليوم مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش " أيها الأحياء تحت الأرض عودوا فإن الناس فوق الأرض قد ماتوا " ! ، وكيف كنت أتابع عبر المذياع جولات عبر المعمور لقادة الأحزاب الوطنية ممثلين للملك للتعريف بالقضية الوطنية ، والبعض من هذه الأحزاب في مواجهة عنيفة مع الدولة .... الوطن يجمعنا ووحدته الترابية خط أحمر مهما كانت حدة الاصطدام ، كانت وستظل هي الصخرة التي تتكسر عليها مختلف المناورات ومؤامرات وأطماع من يجتهد في النيل من هذه اللحمة حتى ولو كانوا جيران بحكم الجغرافيا ....حقيقة عبر عنها الزعيم الاشتراكي الكبير عبد الرحيم بوعبيد في محاكمته الشهيرة سنة 1981 " ربي إن السجن لأحب إلي من أن ألتزم الصمت وألا أقول رأيي في قضية مصيرية وطنية ".
اليوم 16 أكتوبر 1975 ...الدراسة عادية بثانوية محمد الخامس بالقنيطرة حيث تابعت دراستي بشعبة العلوم الاقتصادية كتلميذ قادم من مدينة وزان التي كانت تشكل امتدادا اداريا لعمالة القنيطرة ...ولأنني كنت أستفيد من خدمات القسم الداخلي ، ولم يكن قد مر على التحاقي الفعلي بالشبيبة الاتحادية إلا حوالي سنة ، أي مباشرة بعد المؤتمر الاستثنائي للحزب الذي حسم مع ازدواجية التنظيم من دون أن يفرط في أبنائه الذين لم يقتنعوا بعد بخط استراتيجية النضال الديمقراطي الذي يعتبر قائده بدون منازع الفقيد عبد الرحيم بوعبيد ...في هذا اليوم سيطلب الحارس العام للقسم الداخلي من مرتفقي هذا القسم الالتحاق بجناح الأنشطة بذات القسم للاستماع للخطاب الملكي .... حالة الاستنفار الغير معتادة والتوقيت غير العادي للخطاب الملكي دفعتنا لطرح سيلا من الأسئلة الحارقة خصوصا ونحن أبناء الحركة الاتحادية والدولة في كل صورها كانت الثقة تخضع بيننا للمد والجزر ....
الملك يخاطبكم ... صمت رهيب يؤثث القاعة ...كل الأنظار متجهة صوب التلفاز بلونه الأبيض والأسود ، وما هي إلا لحظات وبشكل تلقائي وقف جميع التلاميذ لحظة اعلان الملك بتنظيم مسيرة خضراء لاسترجاع صحرائنا المغتصبة ... وسيمشي فيها المغاربة بنظام وانتظام...
لم ننتظر نحن أبناء السبيبة الاتحادية بالقسم الداخلي الذين تابعوا الخطاب الملكي توجيها من قيادة الحزب كما كان عليه الأمر عندما كانت السياسة سياسة ، بل سارعنا للتعبير عن انخراطنا في أجواء المسيرة الوطنية لأن الدفاع عن وحدة التراب لا يستدعي انتظار التوجيه ، ولأن قوة المواجهة بين حزبنا و الحاكمين لا يمكن أن تكون مبررا للتقاعس عن صون الوحدة الترابية ...
لم يغمض لنا جفن تلك الليلة ، وكان نقاشنا نحن أعضاء خلية الشبيبة الاتحادية هو كيف ستكون مساهمتنا في تأطير حلقات النقاش التي سيعرفها رحاب الثانوية ، وما هو شكل مشاركتنا في هذا المنعطف التاريخي ، ووصل بنا النقاش إلى عصف ذهني للمقارنة بين مسيرة الزعيم الشيوعي الصيني ومسيرة الأمة المغربية ... تسليح نظري كان لابد منه في تلك الفترة ...
كاتب التسجيل بالمسيرة فتحت أبوابها في وجه من يرغب أن يدخل اسمه التاريخ في الدفاع عن حوزة التراب الوطني عبر المشاركة في المسيرة .... اكتظت أبواب المكاتب لأن منسوب الوطنية عند المغاربة لا يوازي تدفقه منسوب باقي القضايا المطروحة في الساحة....كانت وجهتي بلدية القنيطرة ، انتظرت دوري في صف طويل ، سؤال واحد كان يقلقني ، هو كيف سأتصرف إن رفضوا مشاركتي ... هذا السؤال لك علاقة مباشرة بما أشرت له أعلاه هو أن الثقة بيننا وبين الحاكمين كانت محكومة بالمد والجزر .... وكان ما توقعته ...تم رفض مشاركتي لأنني صغير السن ولأنني أتابع دراستي ...
طيلة فترة الاستعدادات الجارية ليوم 6 نونبر كنت و الاخوة بمنظمتنا الشبابية نذكي الوعي في الشباب ، ونربط في نقاشاتنا بمختلف الحلقات، بين التحرير والديمقراطية والبناء الاشتراكي ، وفي نفس الآن انتقلت لدار الضمانة للحضور بجانب المشاركات والمشاركين ، وفي نفس الوقت سارعت إلى زيارة وفد وزان بمكان تجمعهم مع غيرهم بمدينة القنيطرة ( ملعب الكاك إن لم تخني الاكرة ) ... من الوجوه الوزانية التي تحتفظ بها الذاكرة كان اللقاء بالمرحومين سي بوعياد ، لحسن الجباري ( الأخ الحنون احسينو) .... طبعا كل مساء كنا نحن مرتفقي القسم الداخلي بثانوية محمد الخامس على موعد مع التلفاز لمشاهدة الاستعدادات ، حيث تتبع انطلاق الشاحنات والحافلات والقطارات في اتجاه مراكش وطرفاية ، والحماس الذي يغمر المشاركات والمشاركين وهم في طريقهم نيابة عنا ، نحو تجديد صلة الرحم مع قطعة من تراب الوطن بترها المستعمر الغاشم ، وعطل تسليمها للمغرب صاحب الحق المشروع الذي حددته محكمة لاهاي بدون لف ولا دوران ... تعطيل لم تنطلي مناورات المستعمر على المغرب بإخضاع حقه المشروع لأجندة الحرب الباردة، و سعي الجار الذي تنكر لكل ما هو مشترك بيننا فسارع لتفتيت وحدتنا الترابية ....
سيطول الحديث إن وقفنا عند الكثير من التفاصيل، لكن تفصيلة واحدة في علاقة باسترجاع المغرب لصحرائه ستظل راسخة في ذهني ما تبقى من العمر ، لها علاقة بموقف النظام الجزائري المستمر لليوم...
فبراير1976 سيعلن النظام الجزائري عن ميلاد جمهورية وهمية فوق الصحراء المغربية المسترجعة بسلاح المسيرة الشعبية التي لم ترق قطرة دم واحدة ، وهو ما أبهر العالم بأسره .... في الصباح التحقنا بالفصل الدراسي حيث استقبلنا أستاذ اللغة العربية أو الاجتماعيات، تخلى عن تقديم الدرس وقال بالحرف في علاقة بمغامرة النظام الجزائري " اليوم بدأ المشكل في الصحراء المغربية وسيطول أمده" .... ذهول كبير أصابنا لأننا لم نستوعب بالعمق الكافي كلام أستاذنا ، و ها هو الزمن يؤكد حكمة الرجل ونظرته البعيدة ، وتقديره لخطورة مغامرة حكام الجزائر ....
لكن إذا كانت الجغرافيا قد جعلتنا نجاور هذا الجار الذي لم يتعب المغرب في مد اليد له لجعل المناطق الجنوبية للمغرب منصة للتعاون من أجل منطقة مغاربية أمنة ومستقرة ، لها وزنها التنموي وثقلها الديمقراطي ، ورقما عصيا على التجاوز في معادلات كبار العالم ، فإن على هذا الجار الذي تحكم الطغمة الحاكمة شعبه بالحديد والنار ، في زمن لا خطاب فيه يعلو على خطاب حقوق الانسان والديمقراطية ، ( على هذه الطغمة ) أن لا يغيب عن ذهن عسكرها بأن " المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها "....