ادريس الفينة: اللحية بين الماضي والحاضر: قراءة تاريخية وتحليلية

ادريس الفينة: اللحية بين الماضي والحاضر: قراءة تاريخية وتحليلية ادريس الفينة
اللحية كانت ولا تزال موضوعًا يثير الجدل والانتباه. هي ليست مجرد ظاهرة جسدية عابرة، بل تحمل دلالات ثقافية، اجتماعية، ودينية تتغير مع الزمان والمكان. في هذا المقال، سنقوم بإعادة قراءة العلاقة بين اللحية والسلطة، الدين، والثقافة عبر العصور، مع تسليط الضوء على تطور هذه العلاقة حتى يومنا هذا.
 
اللحية في الحضارات القديمة
في حضارات بين النهرين، لم تكن اللحية مجرد مظهر جمالي، بل كانت جزءًا من الهوية الثقافية والدينية والسياسية. سواء أكانت رمزًا للقيادة كما في حالة الأكاديين، أو للحكمة كما عند السومريين، أو للقوة العسكرية كما في الإمبراطورية الآشورية، فقد ظلت اللحية جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي لهذه الحضارات التي تركت بصمتها العميقة على التاريخ الإنساني.
 
في الحضارة الإغريقية القديمة، كانت اللحية رمزًا للسمو والحكمة. الآلهة الإغريقية كزيوس وأبولو صُوِّرت في الغالب ملتحية، مما يعكس رمزية القوة والقدسية. كذلك، كان العديد من الفلاسفة الإغريق مثل سقراط وأفلاطون يحملون لحىً كعلامة على الحكمة والهيبة.
 
أما الرومان، فقد كانت لهم نظرة مختلفة. مع تأسيس الإمبراطورية الرومانية وازدهارها، أصبحت النظافة الشخصية والوجه الحليق معيارًا للجمال والنظام. تشير المصادر التاريخية إلى أن 45 إمبراطورًا حكموا روما، من بينهم فقط 5 كانوا يحملون لحى. يبدو أن هذا التوجه يعكس تطلع الرومان للتمايز عن الإغريق ورموزهم الثقافية.
 
التحول الكبير جاء مع الإمبراطور قسطنطين، الذي تحالف مع المسيحيين وهزم غريمه مكسنتيوس في معركة جسر ميلفيو عام 312م. قسطنطين، رغم كونه أحد القادة المؤثرين، كان يواصل تقليد الوجه الحليق، مما يعكس استمرار تأثير الرومان في هذه الفترة على المظهر الخارجي للحكام.
 
في مصر القديمة، كانت اللحية الحقيقية غير شائعة بين الفراعنة، لكنهم استخدموا لحى صناعية كجزء من زيهم الملكي. كان لهذه اللحى رمزية دينية وسياسية، حيث كانت ترتبط بالآلهة والخلود. ومن المثير أن آلهة المصريين أنفسهم غالبًا ما كانت تُصور بدون لحى، مما يعكس اختلافًا في المفاهيم الرمزية مقارنة بالحضارات الأخرى.
 
رؤساء الولايات المتحدة
اللحية كرمز سياسي عادت للواجهة في العصور الحديثة، ولكنها لم تكن القاعدة. من بين 46 رئيسًا حكموا الولايات المتحدة حتى اليوم، فقط 5 حملوا لحى، أبرزهم الرئيس أبراهام لنكولن الذي ارتبطت لحيته بالقيادة القوية خلال فترة الحرب الأهلية. أما بقية الرؤساء، فقد فضلوا الوجوه الحليقة، ربما كجزء من الثقافة الغربية التي تمجد النظافة الشخصية والحداثة.
 
اليوم، نشهد عودة كبيرة للّحية كموضة ورمز ثقافي. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذه العودة؟
1. الهوية الثقافية والدينية: أصبحت اللحية رمزًا للهوية في بعض المجتمعات، سواء كانت دينية أو ثقافية. في العالم الإسلامي، ارتبطت اللحية بمظاهر التدين، بينما في الغرب، باتت تعكس أحيانًا نمط الحياة الرجولي أو التمرد على الأعراف الاجتماعية.

 
2. التوجهات العصرية: في العقود الأخيرة، عادت اللحية للظهور كموضة عصرية بين الشباب. ارتبطت هذه العودة بأساليب الحياة الطبيعية والبسيطة التي تروج لها الحركات البيئية والبديلة.
 
3. الرمزية السياسية: بعض القادة السياسيين المعاصرين يحملون لحى كجزء من هويتهم الشخصية أو كإشارة على التواصل مع الطبقات الشعبية.
 
اللحية ليست مجرد ظاهرة سطحية، بل تعكس تغييرات أعمق في المجتمع والسياسة والدين. من الإغريق إلى الرومان، ومن الفراعنة إلى رؤساء العصر الحديث، تطورت رمزية اللحية لتتناسب مع سياقاتها التاريخية والثقافية. ومع استمرار عودتها في عصرنا الحالي، يبدو أن اللحية ستظل حاضرة كمؤشر على التغيرات الاجتماعية والثقافية، تمامًا كما كانت عبر التاريخ.