على قدم وساق، وبقدر لا يستهان به من القفز على المكتسبات الاجتماعية، وعلى الحوار الاجتماعي والمقاربة التشاركية في إقرار القوانين، تحث الحكومة الخطى من أجل تمرير مشروع القانون رقم 54.23 القاضي بإعدام "الكنوبس" ودمجه على نحو شامل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، رغم ارتفاع بعض الأصوات التي تحذر من هذا الدمج، وتأثيراته على المنخرطين والموظفين والعمال. غير أن الحكومة المتغولة بعدد برلمانييها، وبضعف المعارضة الحزبية وضمور الممانعة السياسية لدى الأحزاب والجمعيات، والصمت المريب لجل النقابات، وبشعورها القوي بأنها مالكة النهي والأمر مركزيا وإقليميا وجهويا ومركزيا، لا تعير اهتماما لأي صوت آخر عدا صوت «الإجهاز» على كل شيء، بما في ذلك «روح الدستور» و«السلم الاجتماعي».
لقد عبرت الحكومة في مناسبات عدة (استغلال ظرف العطلة الصيفية لمحاولة فرض الأمر الواقع)، عن سعيها لتمرير هذا المشروع بشكل أحادي، ودون مراعاة مبادئ الشراكة والحوار الاجتماعي، الذي يفترض أن يكون مؤسسة لتبادل الآراء والتوافقات. وهو ما يعني أن الحكومة لا تتوفر على "الثقة" اللازمة في مكوناتها لإقناع الشركاء بقوانين تعرف أكثر من غيرها أنها قوانين «لاشعبية»، ولا تهدف سوى إلى حل «إشكالات» مالية يعاني منها «الضمان الاجتماعي» بصنع إشكالات أخرى من المتوقع أن يكون الموظفون والعمال والطلبة هم ضحاياها الأوائل. ذلك أن التجربة علمتنا أن الحكومة لا تعطي إلا لتأخذ أكثر، ولا تسخو إلا لتعمق الفوارق الاجتماعية وتضرب القدرة الشرائية للمواطنين، ولا تصنع قانونا إلا لتنهب الجيوب وتسطو على المكتسبات.
إن الإجهاز على «الكنوبس» على النحو الذي اختارته الحكومة يشير في نهجه وطبيعته إلى ما يلي:
أولا: أن الحكومة لا تحتقر باقي الشركاء فقط «الأحزاب والنقابات والمؤسسات المعنية»، بل تحتقر الدستور وتتعامل معه بوصفه نصا لا يصلح إلا لحالات الطوارئ. ذلك أنها تقفز على مسطرة إعداد النصوص التشريعية، أو على الأقل تتعامل مع هذه المسطرة على نحو تقني ضيق، يحصر النقاش في الجهة التي تريد «فرض» هذا القانون، بدل إعداده بشكل جيد، انطلاقا من دعوة الخبراء والفرقاء، وحتى أحزاب المعارضة، إلى مناقشته وإبداء الملاحظات حوله، قبل عرضه على مجلسي البرلمان، ما دامت الحكومة مطمئنة إلى «أغلبيتها العددية»، وإلى تبعية الثلاثي الحزبي «الأحرار، البام، الاستقلال» لسياساتها.
ثانيا: أن هذا الدمج الذي تصر عليه الحكومة يعتبر «تحايلاً مكشوفًا» على حقوق ومكتسبات المنخرطين في «الكنوبس»، ما دامت هذه الخطوة ستؤدي إلى تآكل حقوق العمال وتعريضهم لخطر الاستغلال المالي بسبب أي عجز محتمل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
ثالثا: أن الحكومة تلعب بالنار، لأنها بدأت تستسيغ «إبداع» الحلول لأزمتها المالية على حساب جيوب المواطنين ومكتسباتهم ومدخراتهم. كما أنها تمرر مشاريع قوانينها بدون إشراك حقيقي للمنخرطين أو ممثليهم، في انتهاك واضح لمبادئ الشفافية والحوار الاجتماعي. وما لجوؤها إلى هذه الإجراءات التهريبية سوى للتغطية عن أي عجز مالي محتمل في نظام «أمو تضامن»، خاصة في ظل عدم انتظام أداء اشتراكات منخرطي صندوق الضمان الاجتماعي، على عكس الكنوبس الذي يشهد انتظامًا واستدامة بفضل اقتطاعاته من المصدر.
إن دمج «الكنوبس»، في صندوق الضمان الاجتماعي قد يؤدي، كما أشار إلى ذلك العديد من المتتبعين، إلى تقليص الفوائد أو زيادة الأعباء المالية على المستفيدين، فضلا عن ضرب حقوق العمال ما دام الدمج سيمس باستدامة الخدمات التي كانوا يستفيدون منها في «الكنوبس». ومن هنا، يقتضي «الحوار الاجتماعي» الحقيقي توضيح مصير حوالي 3.1 مليون مستفيد من التعاضديات التابعة «للكنوبس».
لقد نص مشروع القانون على أن تنقل إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مجموع الأصول، والخصوم، ومجموع الأرصدة المودعة في الحسابات البنكية، وكذا مرجوعات التعويضات عن ملفات المرض من حسابات نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض في القطاع العام، وأنظمة التغطية الصحية الأساسية الأخرى المدبرة من قبل الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، فضلا عن الاستحواذ على الممتلكات العقارية لـ «كنوبس». وهذا، يعني وضع اليد على ملايير الدراهم التي ستؤول، في نهاية المطاف، لصالح لوبيات التأمين والمصحات الخاصة، سيما أن المستشفيات العامة لا تستحوذ إلا على 6% فقط من من الإنفاق الصحي، وتتعرض لمنافسة غير عادلة من طرف القطاع الخاص، الأمر الذي يستدعي تعبئة مبكرة حتى لا تتحول خطوة الدمج إلى حصاة في حذاء أي مقاربة اجتماعية لملف التغطية الصحية، وحتى لا يتم الإمعان في «تشحيم المعلوف» كما يقال.
إن وضع اليد على «الكنوبس» وإنهاء «النظام التعاضدي»، رغم الاتفاق الذي أبرمته الحكومة مع مجموعة من التعاضديات دون الأخرى، كفيل بزلزلة قلعة أخرى من قلاع الحماية الاجتماعية، وعلى رأسها قطاع الصحة، إذ ما زالت تطرح العديد من التساؤلات على مشروع القانون، والحال أن الحكومة تتعامل معه كتحصيل حاصل وأمر واقع، لا بد أن يرضخ له الجميع أمام صمت مسبق لمؤسسات الوساطة الاجتماعية، بما فيها الأحزاب والنقابات، فضلا عن صمت مجالس الحكامة، وعلى رأسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ومجلس المنافسة؛ ومن هذا التساؤلات:
إذا تمت المصادقة على مشروع قانون الدمج بين الصندوقين، كيف ستتم عملية الاقتطاع، خاصة أن الاقتطاعات متباينة، حيث أن الموظف في القطاع العمومي يقتطع له 2.5 % بالنسبة للكونبس، و2.6 % بالنسبة للضمان الاجتماعي؟
لماذا اختارت الحكومة أن تعمل بسرية تامة على هذا الملف دون إدماج باقي الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والخبراء؟ وماذا كانت ستخسر لو أنها اختارت المقاربة التشاركية؟ هل السبب يعود إلى التخوف أم إلى التغول؟
هل قرار الدمج مبني على إجراءات وآليات ملموسة لإعادة التوزيع وخلق نظام شامل وموحد لبناء التضامن، من خلال فرض نوع من الاقتطاع العادل، خاصة أن «الأثرياء هم من يتلقون الرعاية اليوم، والأغنياء هم الذين يدفعون أقل ما يمكن»، بتعبير عبد العزيز عدنان، المدير العام «للكنوبس»؟
هل تكتفي التعاضيات بالإذعان لـ «الضمانات الحكومية» دفاعا عن امتيازاتها، والقبول بالصيغة الحالية للمشروع، أم أنها ستضحي بمنخرطيها مقابل «الفتات الحكومي» و«أمصال إطالة العمر والبقاء على قيد المنافع المادية»؟
هل ستنخرط المركزيات النقابية الكبرى في مبادرات احتجاجية موحدة رافضة لأي مخطط يجهز على ما تبقى من مكتسبات الطبقة العاملة؟ وهل بوسع هذه النقابات أن تضغط بكل ثقلها من أجل إسقاط هذا المشروع؟
لماذا تبدو الأحزاب، بما فيها أحزاب المعارضة داخل البرلمان وخارجه، مكممة الأفواه، وعاجزة عن إحداث الفارق أمام احتكار الحكومة للتشريع في مجال الحماية الاجتماعية دون إشراك الأطراف المعنية الأخرى؟ ولماذا تكتفي بالتفرج عوض إنزال النقاش إلى الرأي العام، وتعبئة الإعلام، وتنظيم الندوات والموائد المستديرة والأيام الدراسية، من أجل إضاءة الحقائق حول هذا الموضوع؟
تؤكد الحكومة أنه لن يتم المساس بمكتسبات الشغيلة، وأنها لن تضحي، أيضا، بمصالح 6000 موظف يعملون في «الكنوبس»، وأنها جادة في دمجهم وإخضاعهم لعملية إعادة الانتشار، مع احتفاظهم بالامتيازات نفسها التي يحصلون عليها حاليا. غير أن سوء النية اتضح بشكل جلي حين تم «اتخاذ قرار الدمج» وصياغة مشروع القانون بعيدا عن جميع المتدخلين، وعلى رأسهم مدير «الكنوبس» الذي لم يستشر في عملية الدمج، فضلا عن النقابات والتعاضديات والأحزاب. فكيف يمكن الثقة في جهة اختارت الطريق الخطأ لتمرير قرار الدمج؟ وما هي سبل إرغام الحكومة على الالتزام بالسلم الاجتماعي والعودة إلى طاولة الحوار؟
إن توحيد الصفوف وخلق جبهة نضالية مشتركة للمواجهة هو الحل. غير أن الرهان الحقيقي يبقى هو استعادة الأحزاب والنقابات من السماسرة الذين لا يترددون في المتاجرة بالمكتسبات الوطنية باسم الدولة الاجتماعية.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"