عبد الرحيم أريري: "ساحة التجارة" بلشبونة.. البقعة المقدسة لدى البرتغاليين!

عبد الرحيم أريري: "ساحة التجارة" بلشبونة.. البقعة المقدسة لدى البرتغاليين! الزميل عبد الرحيم أريري "بساحة التجارة" في قلب لشبونة، وكانت تسمى قبل زلزال 1755 "بساحة القصر"
هذه الساحة الموجودة بساحل لشبونة، تسمى "ساحة التجارة"( بالبرتغالية Parca do commércio)، وهي أشهر ساحة عمومية بالبرتغال، ليس بسبب مساحتها الممتدة على أربعة هكتارات، أو بسبب بهاء المعمار الذي يميز البنايات التاريخية التي تؤثث جنباتها، أو بسبب تمثال الملك جوزيف الأول الذي يتوسط الساحة، أو بسبب مئات المطاعم والحانات والمقاهي المنتشرة بالأزقة المتفرعة عنها، بل لكون "ساحة التجارة" هي "البقعة المقدسة" لدى البرتغاليين بالنظر لكونها تختزل وتختزن كل الموروث التاريخي للبرتغاليين.
 
فمن مدخل هذا الساحة التي تطل على نهر التاج Le Tage، وصلت قوارب وسفن الجنود المسيحيين المنتمين لشعوب الفيكينغ والجيرمان والإنجليز والفلامان لدعم البرتغال في حروبها الصليبية ضد المسلمين في القرن 12، أثناء حصار ليشبونة عام 1147.
 
وفي هاته الساحة تم إشهار قوة النظام الملكي بالبرتغال بنقل مقر الحكم وبناء قصر الملك مانويل الأول عام 1511.
وفي هاته الساحة انطلقت شرارة ثورة القرنفل التي أطاحت بالديكتاتور سالازار عام 1974.
 
وفي قلب هاته الساحة ولدت الأمبراطورية البرتغالية التي حكمت العالم ( رفقة الإسبان)، خلال القرون 15 و16 و17 بفضل الرحلات  الاستكشافية والغزوات التي انطلقت من نهر التاج (النهر الذي يربط لشبونة بالمحيط الأطلسي )، وهي الرحلات التي كان يمولها الملوك والأمراء البرتغاليين ويعبئون الحشود على جنبات الساحة لتوديع البحارة في أبريل ومارس من كل عام ( الوقت المناسب لدفع السفن آنذاك بفضل اتجاه الرياح جنوبا).
 
ومن قلب هاته الساحة ولدت أمجاد البرتغاليين الذين انطلقوا منها في السفن وكان لهم الفضل في اكتشاف أهم الممرات البحرية وأبرز مسارات الملاحة البحرية في العالم، بحكم مهارتهم وتوفر البرتغال آنذاك على أشهر الملاحين العالميين، من قبيل: هنري، بارتولومي، فاسكو دي جاما، ماجيلان، وغيرهم كثير.
 
ومن قلب هاته الساحة ستتشكل هندسة التراب الوطني للبرتغال منذ القرن 12 إلى اليوم. فبحكم صغر دولة البرتغال وقلة عدد سكانها، كان ملوك البرتغال يحرصون على تتبيث السكان بجوار الساحل لتحقيق غايتين أساسيتين: أولا ضمان القوت للسكان عبر الصيد واستهلاك موارد البحر، وثانيا لتسهيل تجنيد السكان ضد الغزوات المضادة للمسلمين او لصد كل عدوان محتمل من شعب آخر.
 
وللحفاظ على هاته الهندسة الترابية وتوطين السكان البرتغاليين بجوار الساحل، كان لابد من ضمان عنصرين: العنصر الأول يكمن في بناء موانئ مجهزة، والعنصر الثاني يتجلى في التوفر على سفن كبرى وقوية تقاوم تقلبات الريح وتواجه أمواج المحيطات. ثم وهذا هو الأساسي، أن تكون هذه السفن قادرة على حمل أكبر حمولة مقارنة مع سفن الدول الأخرى، لتغطية العجز الديمغرافي الذي كانت تشكو منه البرتغال في أوج هيمنتها على العالم. لدرجة أن المؤرخ الفرنسي الراحل Pierre Chaunu، كتب بأن سفن البرتغال كانت تنقل ثلث التجارة العالمية، علما أن سكان البرتغال في ذاك الوقت كان يصل بالكاد إلى 900 ألف نسمة.
 
وهذا ما يفسر  اليوم كيف أن 7 من أصل 10 برتغاليين يقطنون بالساحل، أو على مقربة من الساحل في حدود 20 كليومتر. 
 
وهذا ما يفسر اختيار البرتغال لتكون  "حارسة المحيطات" عالميا، منذ احتضان لشبونة للحدث الكوني "كسبو 1998".
وهذا ما يفسر حرص الحكومة البرتغالية على نشر 44 ألف خريطة جديدة للبرتغال تحت عنوان:"البرتغال هي المحيط"، وتوزيعها على كافة المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية لزرع "جينات البحر" في الناشئة، بالنظر إلى أن قوة الخريطة الحالية لا ترتبط بالمساحة البرية( في حدود 92.000 كلم مربع)، بقدر ما تنتشي بالمساحة البحرية للبرتغال البالغة 4 ملايين كلم مربع، أي 97% من المساحة الإجمالية للبرتغال.
 
وهذا ما يفسر لماذا أن البرتغال هي الدولة الوحيدة في العالم التي تخصص يوما وطنيا للاحتفال بالبحر كل عام" يوم 16 نونبر"، واستعراض كل ثرواته ومفاتنه ومباهجه ومأكولاته في شوارع المدن.
 
وهذا ما يفسر كون البرتغاليين هم أول شعب يأكل السمك في العالم( 60 كيلوغرام لكل فرد لكل عام).
 
وهذا ما يفسر الرمز الذي يزين صدر العلم الوطني للبرتغال الذي يتوسطه رسما يرمز لأمجاد البرتغال في الاكتشافات البحرية.
 
وهذا ما يفسر لماذا يحث النشيد الوطني للبرتغال في كل أبياته على استنهاض همم البحارة وتمجيدهم ومخاطبتهم ب"أبطال البحر" (بالبرتغالية Herois do mar).
 
أبعد كل هذا السرد..ألا تستحق "ساحة التجارة" بلشبونة كل التقديس والتقدير والإعجاب؟!