يفرض سؤال ذاته علي:
من أي موقع سيسلس لي أن أتحدث عن محمد الأشعري، الإسم العلم، بتمظهراته المتعددة والمتداخلة؟ لأنه في حالة مماثلة يحتاج الواحد منا أن يستقل عن ذاته ليتحدث عن الرجل بعيدا عن تأثير ما تُحدِثُهُ رُفْقَةُ الطريق من تواطؤات تنسُجُها علاقة أخوة لا تهبها غير حرارة سقف بيت العائلة.
الأمر إذن يحتاج مسافة عن الذات للتحليق في سماء المعاني بما يجب لها من نظرة شاملة، تماما مثل النسر حين يحلق في الأعالي ليرى سيرة الأودية والوهاد والمروج ممتدة أمامه.
حينها فقط أستطيع أن أرى إلى محمد الأشعري كمنجز مغربي خالص وكامل، عنوانا لجيل يمكن وصفه إجرائيا ب "جيل صدمة الإستقلال" أو بتحديد أدق "جيل خيبة الإستقلال". الجيل الذي فتح عينيه على وعود كبيرة بطموحات عريضة لربح "الزمن الضائع في التخلف" وانتهى إلى مرارة رؤية الحلم ينسل من العين (أليس هو صاحب الديوان الشعري الأشهر "عينان بسعة الحلم"؟). لقد قادته الصدمة تلك ضمن جيله منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات إلى الإنخراط في طريق "الإحتجاج"، ليس ذلك الذي يغرق فقط في الصراخ (والصراخ بعض من جنس العويل أحيانا)، بل ذلك الذي يؤسس للقول المحلل، الدارس، الراسم للحلول، الطامح لبناء نظرية لمشروع مجتمعي مختلف، سيشكل ضمن سياقه التاريخي في صيرورة الفعل المغربي عنوانا لجيل ناضج، ناهض، فاعل.
لأنه لا فكاك لنا هنا، من الرؤية للوقائع المؤطرة لذلك الجيل ضمن مسار مغربي كامل، ابتدأت موجته منذ "صدمة الإستعمار" تلك التي أدخلت المغربي في الدولة وفي المجتمع إلى التصادم مع حسابات منظومة السوق العالمية (في مرحلتها الإمبريالية اقتصاديا)، أقله منذ حملة نابليون بونابارت الفرنسية على مصر وفلسطين في سنة 1798 وتعززت أكثر مع احتلال مدينة الجزائر وباقي أراضي متيجة بالمغرب الأوسط سنة 1830، ضمن طموح فرنسي هائل لا يزال متواصلا إلى اليوم بعناوين أخرى، تحلم من خلاله باريس إلى تحويل المتوسط إلى فضاء فرنسي كامل (آخر عناوينه مشروع الرئيس ساركوزي "الإتحاد من أجل المتوسط").
من حينها ولد المغربي الذي يؤطره "قلق الوعي الشقي"، ضمن سؤال الإصلاح بسقف عنوان كبير: "من نحن؟ وما الذي نريد؟ وإلى أين علينا المسير؟".
شكل ذلك إعادة تدوير لما يمكن وصفه بدون تردد: "الهوية الوطنية المغربية". لأنها هويةٌ بلورتها وقائعُ في التاريخ منذ تدافع مصالح عالم القرن التاسع الميلادي، وعززتها محطات تدافع مصالح أخرى على امتداد القرون الثانية عشرة والخامسة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة. ليشكل بعدها القرن العشرون كله (ذاك الممتد منذ مؤتمر مدريد حول القضية المغربية سنة 1880، حتى حكومة التناوب برئاسة الزعيم الإتحادي عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998)، محطة أخرى لإعادة تأطير "الهوية الوطنية المغربية" تلك بمنطق العولمة وعلاقات التفاوت والتبعية "شمال جنوب". مما أنضج جيلا مغربيا يمكن وصفه ب "الجيل الناهض" تعاقبت عليه ثلاث مجموعات هي:
أولا مجموعة جيل محمد الرابع والحسن الأول والبعثات الطلابية إلى روما وباريس وبرلين وبروكسيل ولندن ومدريد وتجار المدن الكبرى وحركات القبائل المقاومة لعل رمزها الأكبر قصة حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي بالشمال وقصة حركة الهيبة ماء العينين بالجنوب (هم "جيل الانكسار" في الطموح الإصلاحي وامتلاك قراره المستقل).
ثانيا مجموعة جيل الثلاثينات المديني، الخارج من شرنقة الشرائح الاجتماعية التجارية التي فقدت سلطة قرارها المالي أمام تغول السوق العالمية (جيل أزمة 1929 الدولية). وهو الجيل المتعلم الذي لعب لعبة السياسة كتأطير للمجتمع ضمن مشروع تحرري بأفق مفاهيم جديدة هي "الوطنية، الوطن، الإستقلال"، الذي هو جيل محمد الخامس مؤسساتيا على مستوى الدولة، سيتولد من رحمه تيار شرائح الحرفيين والعمال والتجار الصغار لأول مرة (بفكر جنيني للعمل المسلح وكذا للعمل النقابي)، مكن من بروز مدينتين كفضاء لقيادة معركة ذلك المشروع المجتمعي التحرري هما العاصمة الرباط ومنافستها الرمزية المدينة العمالية الدار البيضاء.
أخيرا مجموعة جيل الستينات، التي ليست فقط وليدة موروث كل ذاكرة الجيلين السابقين بانتصاراتهما وخيباتهما وأوهامهما أيضا، بل هي مجموعة طامحة للإصلاح ضمن مشروع مجتمعي فيه تصادم وتنازع هذه المرة بين قوتين موروثتين مما مضى هي قوة الدولة التي تريد إعادة ترتيب ذاتها بمنطق المحافظة عبر تجديد "البناء الإداري التدبيري الراسخ للمخزن"، وقوة المجتمع (الشبابي في غالبيته العظمى) الطامح لإعادة بنينة تدبير الدولة ضمن أفق مؤسساتي وصف ب "الحداثي".
محمد الأشعري ابن شرعي لهذا الجيل الثالث، الذي انخرط بعنفوان ضمن التيار الجارف لما أفرزته قوة المجتمع المنافحة والمعارضة لقوة الدولة الطامحة لإعادة تنظيم ذاتها من باب المحافطة، عبر آليات تنظيمية حزبية وجمعوية وثقافية. وهو الإنخراط الذي قاده للسجن في محطة مثلما قادة لكرسي الوزارة في محطة تراكمية تالية.
إن ما يهمني، في هذه الخطاطة المختصرة، هو الرؤية لاختلاف محمد الأشعري ضمن جيله. فالرجل انتصر بوعي منذ بداياته للثقافي والأدبي ضمن صيرورة ذلك الإنخراط في تجاذب المواجهة بين القوتين المغربيتين الخالصتي الإنتماء للأفق الوطني. وهو بذلك انتصر للأبقى، فالقول يذوب أحيانا مثلما تَذْرُو الرياحُ الضباب في قمم الجبال، بينما ذاكرة المكتوب باقية كالوشم في ظاهر اليد. فصنع بذلك ما يمكن وصفه بلا تردد ب "مجده الخاص"، مجد الإسم العلم، الشاعر والأديب والكاتب.
إن استحضار كل الزخم الضاج فيما حاولت استعراضه ربما بتطويل من علامات "الهوية الوطنية المغربية" (بالمعنى التاريخي وليس المعنى السياسي)، هو الذي مكن المغربي، المواطن، محمد الأشعري من أن يُنتِجَ مَقُولاً كتابيا يصدر عن معرفة بقصة تاريخ ذلك الزخم المغربي. دليل ذلك أن كل دواوينه الشعرية بلا استثناء هي تعبير أدبي عن قلق الفرد الكاتب أمام اصطخاب التاريخ، تاريخ جماعته وتاريخه الشخصي كتجربة حياة ضمن تلك الجماعة التي اسمها المغاربة. فامتلك بذلك صوته المتمايز، المختلف، النافذ، المؤثر، تماما مثل طراوة ونداوة بيته الشعري الأشهر ضمن قصيدته "الدار البيضاء":
"جاهز قرارهم،
جاهز رصاصهم،
نافذ قرارنا،
لن تمر المهزلة".
لقد انتصر الأشعري بوعي للكتابة كوثيقة في التاريخ عبر الأدب، وهنا اختلافه في الفعل السياسي (بمعنى "المثقف العضوي" الغرامشي)، إذ لم يجرفه التنظيم الذي يَفْرُمُ الرجال في الكثير من الحالات ويؤجل الطاقات في تجارب مماثلة (نموذج عالم السوسيولوجيا الراحل محمد جسوس). بل إنه بنى خيمته الخاصة بإصرار ضمن صيرورة الفعل والقول المغربي للجيل الثالث من أجيال القرن العشرين. ولأن التفاعل مع المكتوب يحضر فيه دوما ذائقة التفاعل والإختيار والتواطئ، أعترف أنني وجدتني أكثر رضى في ديوانه "سيرة المطر" ووجدتني أسكن قارة متعة القراءة (حتى لا أقول بما تقوله المدرسة الألمانية لوولفكونغ إيزر ب ّ"لذة القراءة") في مجموع رواياته التي ساءلت التاريخ عبر الأدب، فأنضجت أجوبة أعمق بكثير من "خطابة السياسة" التي لها مكرها الخاص والآني.
لقد خاطب محمد الأشعري التاريخ من موقع السياسة، فصار الذي نعرفه، أي ذلك الإسم المختلف الذي سيبقى راسخا في ذاكرة الأدب المغربي الحديث. فهنا ذكاؤه الأصيل. هيت له.
(+) نص مداخلة لحسن العسبي ضمن "خيمة الإبداع" بمنتدى أصيلة الثقافي الدولي التي خصصت لتكريم الشاعر والكاتب محمد الأشعري