هي رسالة مطولة حررها رشيد أيت بلعربي المحامي بهيئة القنيطرة، موجهة إلى القضاة، وذلك على خلفية قرار مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب التوقف الكلي والشامل عن ممارسة مهام الدفاع، ابتداء من فاتح نونبر 2024، إلى أجل غير معلوم، حيث تساءل المحامي أيت بلعربي عن كيفية تعامل القضاة وتدبيرهم للملفات في غياب الدفاع:
لقد شهدت ساحة العدالة المغربية حراكا كبيرا في القرن الواحد والعشرين ساهمت فيه جل مكونات المجتمع من أحزاب وجمعيات حقوقية، نقابات، محامين ومحاميات، قضاة وقاضيات، صحافة حرة ومستقلة ومواطنين أحرار.. حراك ساهم في إجراء تعديل دستوري سنة 2011 أقر لأول مرة في تاريخ المغرب اعتبار القضاء سلطة مستقلة.
وهو الاستقلال الذي حمل معه آمالا كبيرة للوطن والمواطنين، تحقق منها الكثير بمساهمة قاضيات وقضاة آمنوا منذ البداية بأن استقلالهم امتياز وضمانة للمتقاضي وليس للقاضي.
ذلك أن الدستور الذي حمل استقلال السلطة القضائية هو نفسه الذي أناط بكم في فصله 117 مهمة حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون.
وكما تعلمون زميلاتي زملائي القضاة، فإن الأمن القضائي للمتقاضين لا يمكن أن يتحقق دون محاكمة عادلة تراعي حقوق الدفاع في المقام الأول باعتبارهما حقين يضمنهما الدستور في فصله 120.
وبمناسبة مناقشة الحق في محاكمة عادلة وحق الدفاع، تعلمون السادة قضاة و قاضيات المملكة بأن زملاءكم المحاميات والمحامين عبر ربوع الوطن عاشوا ولازالوا يعيشون مع الحكومة الحالية أكبر محنة في تاريخ المحاماة تجلت في الهجمات الشرسة والمتتالية لوزارة المالية ووزارة العدل بداية بفرض قانون للمالية لسنة 2023 يضرب كل قيم العدالة الضريبية من خلال فرض تسبيق ضريبي على كل قضية يفتحها المحامي في مكتبه ورفع سعر الضريبة على القيمة المضافة على أتعاب المحامي إلى 20% تؤدى من جيوب المتقاضين، دون مراعاة لخصوصية مهنة المحاماة ولحق التقاضي المجاني لفئات واسعة من المجتمع، زيادة على محاولة فرض قانون جديد للمهنة يضرب استقلال المحاماة وحصانة الدفاع في الصميم. وأخيرا بطرح مشروع قانون للمسطرة المدنية يضرب أبسط الحقوق الدستورية للمتقاضين كالتقليص من حقهم في الاستفادة من مبدأ التقاضي أمام جميع المحاكم وممارسة كل أنواع الطعون العادية وغير العادية أمامها، وفتح أبواب المحاكم على مصراعيها أمامهم دون مصاحبة قانونية تمكنهم من الولوج المتبصر والمستنير للعدالة، زيادة على الجنوح المفرط نحو مبدأ التغريم بمناسبة إثارة بعض الدفوع أو سلوك بعض المساطر بشكل يحد من ممارسة حقهم في التقاضي.
إن توالي الهجمات على زميلاتكم وزملائكم المحامين وعلى الأمن القانوني والقضائي للمغاربة ، دفع المؤسسات المهنية للمحامين على المستوى الوطني إلى اتخاذ قرار ليس بالهين يتجلى في التوقف التام عن ممارسة مهام الدفاع ابتداء من يوم الجمعة فاتح نونبر 2024، إلى أجل غير مسمى رغم كلفته المادية والمعنوية والحقوقية الثقيلة وذلك بعدما ظلت أيديهم ممدودة للحوار طيلة خمسة أشهر دون أدنى استجابة، وبعدما قاموا بخطوات نضالية تصاعدية لم تجد من يلتقط رسائلها حتى اعتقد البعض أن جسم المحاماة أصبح عاجزا عن الدفاع عن نفسه. لكن هي مصلحة العدالة وحقوق المتقاضين وجسامة المسؤولية التي كانت دائما حاجزا يحول دون اللجوء إلى مثل هاته القرارات الصعبة. أما وقد وصلنا إلى الباب المسدود فلا بد من التضحيات من أجل المحاماة وقيمها النبيلة في الدفاع عن الحقوق والحريات.
وها أنتم وابتداء من فاتح نونبر ستدخلون قاعات الجلسات وستجدون أنفسكم أمام ملفات ورقية بدون روح وأمامكم متهمون وضحايا يملؤون هاته القاعات وهم يقفون على رجل واحدة دون محامين يؤازرونهم أو ينوبون عنهم. ولا شك أن الكثير منكم ممن يؤمنون بمفهوم الأسرة الواحدة وبقدسية رسالة الدفاع وبالحق في محاكمة عادلة يتضامنون مع كل مرتفقي العدالة ومع زملائهم المحامين ويؤيدون مسعاهم في إيجاد حل لهاته الوضعية التي وجدوا أنفسهم مكرهين عليها، لكن بسبب واجب التحفظ الذي يحكمكم لن تستطيعوا التعبير علانية عن هذا التضامن.
أما على مستوى تدبير الجلسات فلا شك أنكم ستقفون أمام خيارين:
-أولهما يتجلى في اعتباركم القضية جاهزة لعدم جواب دفاع المدعى عليه أو المستأنف عليه أو لعدم تعقيب دفاع المدعي أو المستأنف رغم الإعلام والإمهال، أو القضية جاهزة لكون المتهم والمطالب بالحق المدني أمهل لإعداد الدفاع أو تقديم مطالبه لكنه لم يقم بذلك.
- ثانيهما تأخير الملف إلى جلسة لاحقة لتمكين أطراف الدعوى من الجواب أو التعقيب أو تقديم المطالب المدنية أو إعداد الدفاع بواسطة محاميهم و ذلك انتصارا لروح الفصل 117 من الدستور الذي وضع على عاتقكم أمانة كبيرة ومسؤولية جسيمة في حماية الأمن القضائي والقانوني للمتقاضين، وانتصارا أيضا لروح الفصل 120 الذي يؤكد على كون المحاكمة العادلة والحق في الدفاع مضمونان. ومادام المتقاضي سيقف أمامكم مجردا من هذين الحقين فإنكم المسؤولون الأولون على ضمانهما بكافة الوسائل.
فإذا كان استقلال القاضي حق للمتقاضي وضمانة أساسية له في محاكمة عادلة، فإن حق الدفاع بدوره حق للمتقاضي وليس للمحامي ولا يمكن تصور محاكمة عادلة يغيب فيها المحامي.
فابتداء من فاتح نونبر ستتوالى الأخبار عن القاضي الذي جسد استقلاله وحكم ضميره وانتصر لقيم العدل والمحاكمة العادلة وحق الدفاع، وعمن تجاهل هاته القيم وانتصر لنقيضها.