عمر لبشيريت.. ولد الشلحة

عمر لبشيريت.. ولد الشلحة عمر لبشيريت بين زمنين

كان كبار الدرب ينادونني، في صغري ومراهقتي، ب "ولد الباشا"، وهو اسم جدتي الأمازيغية الدمناتية، بينما كان أقراني من الصغار، يطلقون علي "ولد الشلحة".

 

كنا نُعرف وتتم المناداة علينا بأسماء أمهاتنا: ولد السطاتية، ولد الشرقاوية، ولد الدكالية، ولد العبدية، ولد الصحراوية، ولد الزيتونية، ولد الطنجاوية

كان هذا أول درس لنا في الجغرافيا.

كنت ممثل "الشلوح" بالزنقة 24بدرب ميلان. كانت هذه أسماؤنا الحركية، ولم نكن نعتبر ذلك عنصرية أو تنقيصا. هكذا كبرنا وهكذا عُرفنا. حملنا ألقابنا كتعريف وليس كهوية، بل كنا نعتبر، في صغرنا، أن الانتماء الأصغر هو "ولاد الزنقة 24"، والانتماء الأكبر هو "ولاد درب ميلان"..

 

كانت "درب ميلان" هي الهوية والانتماء، سواء في التعريف بنا خارج الدرب، أو خلال المباريات الكروية أو المبارزات وشغب الطفولة.. كان الآخر هم ولاد كاريان ابن مسيك وولاد حي الفرح ودرب لاسيگون. فيما كان الأعداء هم أبناء الأحياء البعيدة (ولاد سباتة، ولاد الحي، ولاد درب السلطان، ولاد عين السبع..). كل ما هو بعيد عن إدراكنا المجالي. كنا نتصورهم مثل "الفيكينغ"، نجهل عنهم كل شيء، ونقيس درجة العداء بدرجة البعد عنا.

كنا نعيش، في إدراكنا للأشياء، وسط"جمهوريات". كانت سينما جمهورية"درب ميلان" هي "سينما الحسنية"، فيما كانت "العثمانية" هي سينما جمهورية سيدي عثمان، و"الأمل" هي سينما جمهورية حي الفرح، فيما كان ولاد جمهورية درب السلطان محظوظين كانوا يتفرجون في "الكواكب" و"شهرزاد" و"الأطلس" و"الزهرة" و"موريطانيا"، كانت جمهوريتهم كبيرة وقوية. ولكل جمهورية كان لها سوق: "شطيبة"، "سوق العفاريت"، "القريعة"، "الجميعة"…

وعند وصولنا لمرحلة المراهقة، تعرفنا على فضاءات وسط المدينة، "لاس فيغاس بالنسبة إلينا": "البرانس"، "حديقة الجامعة العربية"، النافورة الموسيقية، سينما ABC، و"ريالطو"، و"لانكس"، و"ليكس"…

وتدريجيا، بدأت تتشكل وتنظاف "انتماءات" أخرى: ولاد القسم، ولاد المدرسة. كلما تقدمنا في السن تنضاف انتماءات جديدة، تعريفات جديدة تلصق بنا ونلتصق بها. بل داخل نفس الانتماء تتعدد الانتماءات: رجاوي، ودادي، غيواني، مشاهبي

 

ثم كانت الدارالبيضاء. كان الانتماء إليها يشعرنا بالتفوق أمام العائلات البعيدة. كانت بالنسبة إلينا، في صغرنا، مثل الولايات المتحدة أمام باقي المدن.

 

لكن أين هو الوطن يا صفية؟ كان هو الحسن الثاني، لم نحمل عنه ذكريات جميلة. مقابله كان "المغرييب" هو منتخب كرة القدم، كان اسمه يبعث فينا الحماس والفخر..أدركنا أن كل الآخرين يشتركون معنا في حب وتشجيع والفخر بهذا "المغرييب".

 

كان "المغرييب" يشعرنا بانتماء واعتزاز أكبر، بينما كان "الحسن الثاني" يبث فينا الخوف والرعب، كان يمثل لنا الفقر والقهر مباشرةً..

 

صار "المغرييب" هو الانتماء الأكبر الذي ليس بعده انتماء. أصبح انتماؤنا الأقصى الذي يجمعنا مع الآخرين. ومن خلاله غادرنا قفص "درب ميلان" إلى انتماء أرحب ونشترك فيه مع آخرين لا نعرف عنهم شيئا. بدأنا نفهم معنى التعدد.

 

هكذا، كان يتشكل وعينا بالانتماءات، كنا لا ننزعج. كنا نعتبر كل انتماءاتنا مجرد تعريفات بنا. بل كنا نكتشف انتماءاتنا بالتجربة والاحتكاك. لم تكن تقدم لنا على طابق من ذهب. مع مرور السنين أصبحنا نفهم أن لنا "تعريفات" متعددة.

 

ثم كان وعينا لصيقا بإدراكنا المجالي، كانت الصحراء بالنسبة لنا هي وارزازات وزاكورة، حيث ينحدر بائعو التمور بالزنقة 18 (عاصمة التمور). وكان الصحراوي هو "سي الحسين" جارنا. لم نكتشف الصحراء المغربية إلا من خلال عودة ابن دربنا، الجندي، من العيون. اكتشفنا، ونحن صغار، أن هناك تراب بعيد جدا ويعيش حربا.

 

تدرجنا في كافة الانتماءات وعشنا في جلبابها، حتى كبرنا فانخرطنا في انتماءات حديثة: سياسية وفنية وثقافية. كل هذا التراكم قادنا إلى فهم معنى"الهوية". لم نفهم "الهوية" حتى حملنا كل "التعريفات" وجربنا كافّة الانتماءات الممكنة.

 

اليوم، أصبح كل شيء مبستر وسريع ومبتذل. أصبحت الشعارات (تامغربيت) و"الفاست فود التكنولوجي" هي القالب الذي يلقن معنى الهوية. بينما كان "معلمنا الأكبر" هو التجريب والاكتشاف. لبسنا أكثر من جلباب، لنستقر في جلباب أكبر: المغرييب.