عبد الله لعماري: "الملك يدعـو إلى ثورة وطنية جديدة" فهـل مـن مجيـب؟

عبد الله لعماري: "الملك يدعـو إلى ثورة وطنية جديدة" فهـل مـن مجيـب؟

في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، في الثامن من أكتوبر من سنة 2014، كانت الطبقة السياسية، ومعها الشعب المغربي على موعد مع خطاب ملكي، نوعي في مضامينه وأبعاده، استثنائي في سياقه الزمني والتاريخي، استثنائية المحطات الوطنية الرمزية التي حلت وتحل ذكراها قريبا منه، قبله وبعده، ذكرى الفاتح من أكتوبر 1955، ذكرى انطلاق العمليات العسكرية لجيش التحرير المغربي ضد الجيش الاستعماري الفرنسي البغيض، وذكرى السادس من نوفمبر 1975، ذكرى المسيرة الشعبية لتحرير الصحراء المغربية من الجيش الاستعماري الإسباني الغشيم، وكذا استثنائية المحطات الوطنية السياسية والمؤسساتية المرتقبة، المرتبطة بالسنة الراهنة، سنة استكمال التشريع المؤسساتي، بالإفراج عن القوانين التنظيمية الدستورية، وكذا خوض استحقاقات تجديد النخب التمثيلية جماعيا وجهويا.

وفوق ذلك، استثنائية الواقع الدولي الخطير، الذي راحت معالم النظام العربي، تندرس من خارطته، وأضحت من خلاله، منظومة الأقطار العربية، تنسلخ تباعا من الرابطة الوطنية، التي انصهرت في بوتقتها الشعوب العربية في أقطارها، عندما وحدتها دماء الفداء والكفاح التحرري ضد الاستعمار الغربي، لتحل بالأمة العربية أوضاع أليمة، سقطت فيها العقيدة الوطنية الجامعة، صريعة تناسل العقائد الشاذة والانعزالية، من عرقية وطائفية ودينية.

وفيما الملك محمد السادس يرقى بالخطاب الدستوري إلى درجة البيان التاريخي، المهيب بالأمة المغربية للتحصن بالوطنية، خندقا ووعاءً، تَحَوُّطا من مخاطر وباء سقوط الأوطان العربية.. وفيما هذا الخطاب الدستوري، يفيض بسيل من التعاقدات الملكية، تدعو الشعب المغربي للانخراط في حركة تصحيحية نهضوية، للتعبئة من أجل القطيعة مع الانتهازية السياسية والدينية والاقتصادية، والشتات الإيديولوجي الذي رهن البلاد للتضعضع والتخلف والانهزامية.

فيما الأمر كذلك، كان العقل المتفيهق والمتفيقه، المغرق في التعالم الديني، يحجب عن الشعب المغربي، ثراء واسعا من الامتيازات السياسية الشعبية، التي حفل بها الخطاب في إعلانات دستورية ملكية واعدة، بما راح به هذا العقل الضيق، المضيع للفرص، يشغل الساحة الإعلامية باللغط حول شكليات لا مقام لمقالها، من علم فرز الحديث، الصحيح منه والضعيف، ويسقط في صرف أنظار المواطنين، عن التقاط الخيط التاريخي الناظم لجوهر الخطاب الملكي، والذي لا جوهر له، سوى التزامات الإرادة الملكية، بإسقاط تقاليد سياسية موغلة في التعفن، رانت ركاماتها عبر عقود، على الطبقة السياسية، التي استمرأت الريع السياسي، وتكالبت على التربع فوق مقاعد الإرث الانتخابي.

إن الوعد الملكي في الثامن من أكتوبر، الداعي إلى التحرر من ربقة الفساد السياسي، وتفكيك إمبراطورية الريع السياسي، القائمة على الإرث الخالد إلى الأبد في المقاعد الانتخابية، والذي جاء يندرج بين محطتين تاريخيتين عظيمتين، ذكرى الفاتح من أكتوبر، ذكرى الرصاصة الأولى للكفاح المسلح لجيش التحرير المغربي، وذكرى السادس من نوفمبر، ذكرى استكمال الوحدة الترابية، إذ يضع على المشرحة، واقع العمل السياسي في البلاد، وارتكانه إلى بؤس الطبقة السياسية، من حيث انحطاط الخطاب السياسي إلى درك الصراعات الشخصية، ومن حيث رعونة تحويل العمل السياسي إلى غنيمة للريع، والتملك الشخصي المتوارث للمقاعد التمثيلية للشعب، إنما يدعو الأمة المغربية بكل قواها الفتية والحية إلى الثورة على الأشكال والتقاليد السياسية العتيقة، والمعيقة لكل تقدم سياسي سليم، عبر تجديد النخب السياسية التمثيلية والقيادية، تجديدا يجعل من السنة الحاسمة 2015، سنة انطلاق وتحرر سياسي، تتشكل فيه بنية طبقة سياسية جديدة، تضطلع بمهام تنمية البلاد، بمرجعية الرسالة الوطنية، والاعتزاز بالانتماء للوطن.

وسوف تتزامن السنة السياسية الجديدة: 2015، مع الذكرى الستين لإطلاق الرصاصة الأولى في الكفاح المسلح لجيش التحرير المغربي ضد الجيش الاستعماري الفرنسي، في الفاتح من أكتوبر 1955، وتتزامن أيضا مع الذكرى الأربعين، للهبة الشعبية المغربية في المسيرة الخضراء، لاسترجاع الصحراء المغربية المغتصبة، وإجلاء الجيش الاستعماري الاسباني، في السادس من نوفمبر 1975.

وإن التحرر من براثن التعفن السياسي والإداري، لا يحيد قيد أنملة عن خط التحرر الوطني الذي قاد الشعب المغربي نحو إسقاط الوجود الاستعماري الفرنسي والإسباني.

وإن جذوة العقيدة الوطنية، التي ألهبت حماس الشعب في التمسك بتحرير البلاد، والتشبث بالدفاع عن الوحدة الترابية للوطن، هي عينها المطلوب إذكاؤها من جديد، واتخاذ مرجعيتها، قاعدة صلبة لبناء المغرب الراقي، والمتقدم، والمتحضر، والمتضامن.

وإن المعاني الرمزية الوطنية الكبيرة، التي تحفل بها هذه المحطات الوطنية التاريخية، كفيلة باستنهاض الهمم الوطنية العالية، لاستدرار الإرادة الشعبية السياسية، بجعل سنة 2015 سنة انبعاث وطني جديد، وانتفاضة ثورية فعالة، تحطم كل العوائق النفسية والمادية والواقعية، وتحفز الأجيال الصاعدة من شباب الأمة المغربية للانخراط فيها بكل إخلاص وعنفوان، نضالا وكفاحا، ضدا على اليأس والتردد والإحباط والانهزام، وانكفاء الروح الوطنية، ونضالا وكفاحا ضد الفقر والحاجة والجهل والتهميش، ومواجهة لحملات التيئيس والتشكيك، وحملات بت دعوات التفكك والتشرذم والتحريف والعدمية، وحربا على الفساد والانتهازية، والثراء الفاحش غير المشروع، ونهب أموال البلاد وتهريبها وشل الاقتصاد الوطني.

وحتى تكون سنة 2015 وطنية بامتياز، فلابد أن تنسجم إرادة تحرير المواطن مع إرادة إنعاش ذاكرته وضميره بالثقافة الوطنية، بعد أن تراجع الاعتناء بها، وخبا إشعاعها في العقل الجمعي المغربي، بفعل الخمول السياسي، وانكفاء نخبة الفكر والحركة الوطنية عن أداء دور التنوير الوطني.

ولضمان تفاعل جماهير الأجيال الصاعدة من الشباب، التفاعل الثوري الخلاق والمبدع مع دعوة الانبعاث الوطني لسنة 2015، يتحتم على البلاد أن تستعيد عافية المدرسة المغربية الموحدة، وأن تتمنع هذه المدرسة التعليمية الواحدة، بمناعة غطاء إيديولوجي وبيداغوجي، تستظل به وتسترشد بأنواره، ولن يكون هذا الغطاء، سوى منظومة العقيدة الوطنية ومضمونها من القيم والتصورات والأحاسيس، والوعي بالأمجاد التاريخية، والمفاخر النضالية، والبطولات الجهادية، التي تجد جذورها في مقومات وثوابت: الإسلام هوية، والعروبة حضارة، والأصالة الأمازيغية عمقا وعراقة، الأمازيغية المغربية الوطنية، الصادقة والمخلصة، لا الأمازيغية الغربية الاستعمارية، المندسة والمرتدة.

إن الأقطار العربية التي تهاوت، إنما تهاوت عندما انهار التماسك الوحدوي بين الحاكم والشعب، فاندس التآمر الاستعماري الجديد، في أجواء هذا التباعد، يبذر التفريق والتمزيق والتخريب في أوصال الوطن المتهاوي.

وإن المغرب الذي كان له موعد مع التاريخ، عندما اتحدت إرادة الملك مع إرادة الشعب، في الثورة المظفرة على الاستعمار، ثورة الملك والشعب في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، يستطيع أن يكسب الرهان في مواعيد متعددة مع التاريخ، لتحصين البلاد مما يلم بالوطن العربي من كوارث، بتجديد اتحاد الإرادتين، إرادة الملك وإرادة الشعب، في ثورة جديدة، تنتج حركة وطنية جديدة، تتخذ من السنة السياسية 2015، سنة الانبعاث الوطني  الجديد، وسنة التماسك الوحدوي للمجتمع المغربي في كل ترابه الوطني، وسنة الإقلاع التنموي، وإعلان الحرب على الفقر، وسنة المصالحة الوطنية الشاملة، والطي النهائي لصفحة الماضي، والانفراج السياسي والحقوقي المستمر والمتجدد.

وإن الأجيال الصاعدة، والتي هي جماهير الثورة الجديدة للملك والشعب، والقاعدة الواسعة للتجديد السياسي، قد تشكل حركة وطنية جديدة، لا تقل شجاعة ومسؤولية ونضالية، عن الحركة الوطنية الأولى، التي اخترقت أسوار الاستعمار، وحواجز الحماية المقيتة، وتواصلت بعزم وتحد مع الملك محمد الخامس، الذي استحق من الشعب، اعتباره رائد الاستقلال وبطل التحرير، فيما استحق من دهاقنة الاستعمار البغيض، أن ينعتوه، وهو فخر له، بملك كريان سنطرال، لتعاطفه مع الفدائيين، وتلاحمه مع جحافل الحركة الوطنية التحريرية، من أجل القضية المقدسة: استقلال البلاد.

وإن ثورة جديدة للملك والشعب، قد تفرز الحركة الوطنية الجديدة، التي تخوض معركة التحرر من الفقر والحاجة والتخلف والفساد، وتتجند من أجل حماية التماسك الوطني، وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، وصون الوحدة الوطنية، وتثبيت أركان السيادة فوق كامل التراب الوطني.

وإن هذه الحركة الوطنية الجديدة، الوليدة من رحم الثورة الجديدة للملك والشعب، هي الروح الجديد الذي يسري في أوصال المجتمع، والدم الفوار الذي سيتدفق ويضخ في شرايين الحياة الحزبية والإدارية، ما يعيد لها عافيتها ونجاعتها وطهارتها، بما يملأ الفراغ السياسي المهول، والخصاص الأخلاقي المريع، تعزيزا للمواطنة الملتزمة والإيجابية، وسعيا نحو تحويل مجرى التاريخ للبلاد والأمة بمؤسسات تمثيلية تكون في مستوى سمو الثورة الجديدة للملك والشعب، وتمكن المغرب دولة ومجتمعا، من العبور نحو تبوأ مكانة رفيعة في مصاف الأمم الراقية في الحقبة الحضارية الإستراتيجية القادمة.