سعيد منتسب: لستُ مِلحا، أنا رائحة..

سعيد منتسب:  لستُ مِلحا، أنا رائحة.. سعيد منتسب
وصلتني رائحتها وأنا أُعْجَنُ في رحمها. أشمها في الوحم، وفي ذلك الاضطراب الذي يعتري كل من رآها تنقع التين في ماء الزعفران، لتلتهمه على الريق كل صباح، وفي تجديد العهد كل ليلة مع قصع الباداز بأوراق الكرنب أو أزهار التين المجفف، وفي قدرتها على الدخول في نفق أثيري من امتزاج القديد بالكرداس، وفي طواجين الخوخ بالزبيب، وفي تلك الوقائع الغريبة التي تصنعها عصيدة الشعير بآكلها، وفي فتات الشطبة بالنافع وجنجلان والحلبة، وفي حساء البلبولة بالحليب والزعتر، وفي التركيبة الحمقاء للشب والحرمل والفاسوخ، وفي صابون المنجل وتيغشت والداد والزيتون المحروق.

تلك الرائحة تهجم في كل وقت. في نوبات الشك والانقباض، وفي حالات الحبور والانشراح. لا أعرف من أين تأتي أو تنبثق؛ أجدها هكذا تثرثر داخلي بمزاج رائق. تحدثني عن أعشاب الجبل خائضة في كل ما تركناه خلفنا في السهوب، وتأخذني بخطى واسعة إلى غار شجرة الرمان. 

شيء واحد كان يهدئ من روعها حين تختلط عليها الروائح أو حين تظن أنها ابتعدت عنها، أن نتجه يدا في يد إلى الغار. عادة، نجد كل شيء في مكانه المعتاد. المدخل الضيق الذي لا يتجاوز طوله مترا ونصفا، وشجرة الرمان المتيبسة التي تصر على الوقوف أطول وقت ممكن في وجه الريح والثلج والشمس والمطر والثعابين ووحوش الجبل. نحرص على السلام والتسليم أولا، وإحراق عود ند نزرعه في شق صخري أعلى المدخل، ثم نعبر نفقا بطول تسعة أمتار يفضي إلى باحة شاسعة لا تخطر روعتها على بال أحد. نسميها غرفة الغار، وهي مسقوفة بحجر صلصالي تخترقه ضواية تسمح للشمس بالنزول. 

أمي تقول إن الشمس حين تتعب تنزل فعلا إلى هذه الغرفة لتستريح وتنام. تمنيت دائما أن أراها تنزل. لا بد أنها تنضو عنها ثيابها الحارقة لتغتسل قبل أن تنام. 

أمي قالت إن الشمس حارقة، وأن كل من رآها تتعرى يحترق أو يعمى في أحسن الحالات. لا أريد أن أحترق، لكن ترى هل تبرد الشمس حين تنام؟ وهل تأتي دائما إلى هذا المكان وحيدة؟ ألا يرافقها مخلوق آخر تحبه ليفحش بها وتفحش به؟ من سيراهما في هذا المكان؟ ومن يريد أن يعمى ليجرؤ على التلصص؟ لماذا لا تكون الشمس هي صاحبة إشاعة الإعماء والإحراق، لتظل شريفة عفيفة؟

تجلس أمي وسط الغرفة. تفرد منديلا تخرجه من تحت ملاءتها السوداء. كحل وحناء وخزامى ومسحوق الورد. تكتحل أولا، ثم تجعلني أكتحل. وحين ترشني بمسحوق الورد أمشي طائعا إلى آخر الدنيا، بينما تخضب رؤوس الصخور بالحناء وتدعك الجدران بالخزامى.، متمتمة بأدعية لم أكن أميز كلماتها.  أشعر بها تحتد فتهتاج وتبكي، ثم تهدأ. وأراها تسند ظهرها إلى جدار في عمق الغرفة، وتشرع في الغناء. يجتاحها شوق لا نهاية له إلى رجل لا أعرفه، بينما تجتاحني رائحة اللقاء الأول بينها وبينه. ربما كانت رائحة طبق تين قرب ساقية تخترق مربعات الفصة. ربما رائحة شاي بورش طابوق جنب الطريق إلى أيت شخمان. ربما رائحة البارود تلح بشكل متقطع على اعتلاء ظهر الجبل. 

قالت إنه طلب شربة ماء فقط، ولم يطلب ذلك الاحتمال البهيج الذي جعل منها بوضوح تام عروسه المنتظرة. لم يفكر في الزواج والحب والعش. نهض من الدم المهروق ليشرب الماء فقط، فمنحته طبق تين مغموس في ابتسامة القرنفل والورد. قالت أيضا إنه عاد إلى الجبل ليحارب الفرنسبس، وليجمع في قلبه كل الروائح التي قد تقوده إلى قلبها. تاه في سهوب وأحراش الجبل، وهناك نمت روائحه وصنع لها أمكنة يملك وحده مفاتيحها. قالت إنه بعد غياب طويل عاد من الجبل. استخرج نفسه من الحرب ليلتقيها. وحين التقاها عانقها لاهثا ومزدحما بحواسه كلها، ثم أخرج كل روائحه من أعماقه وسكبها دون تردد في أعماقها.  قالت كلاما كثيرا. هجمت عليها كل التفاصيل التي تخزنها في مكان من روحه، وصارت تخرجها حكاية بعد حكاية. تسربا بعد تسرب. رائحة بعد رائحة..

هل كان بوسعه أن يدير ظهره لرائحتها وينصرف بشكل مريب ومباغت كألا شيء حدث؟ لماذا مات إذن؟ ولماذا عليها هي أن تموت أيضا  لتكون إلى جواره؟

لم يمرض. اكتفى بالسعال أياما، ثم انصرف. ومنذ ذلك الوقت شرعت هي في حشد رائحته في حلوقنا. اعتبرت ذلك رسالتها. تطوح بنا بعيدا في الجبل، وتجعلنا نضيع في السهوب والأحراش، لنرى كل شيء، ونشم كل شيء، ونمشي في كل تلك الروائح التي تبرر هذا السفر الغرامي نحو "أبواب الخلود".

ما من رائحة من هذه الروائح لم تحتضن رئتي بما يميزها.  قفزتُ إلى روائحها كلها لأتغطى بما يحجبني عنهم. كل رائحة تلمع بشيء ما تتباهى به لأنها تريد أن تكون كل شيء.  أحاول أن أحافظ عليها مورقة في حقل النشوة، خارج كل التوافقات الممكنة مع هؤلاء المعممين الذين يراقبونها عن كثب. أخبئها بما فيه الكفاية في ذاكرتي، وأمزجها بذلك الفرح الغامر الذي يُرتّب في قلبي ممرات غير قابلة للاختراق. روائح بمضامين مختلفة، هي التي تحدد من تلقاء نفسها درجة الحرارة، وقانون التواصل مع جميع الأشياء الأخرى. أحيانا ينتابها شعور بالانتصار حين تقترب كثيرا مما يهز أعصابها، كأن أفكر في الجبل، أو في النهر والحقول. وأحيانا ترتخي بسرعة حين يواجهها الثلج بفظاظته المعتادة. 

أعلم أن الروائح لا تعيش بكل تأكيد في راحة تامة. أمي قالت إن لكل رائحة تجربتها الخاصة، وأن الروائح عادة لا تخون نفسها. لا يمكن لرائحة الصوف أن تكون هي رائحة الدوم، ولا لرائحة الداد أن تكون هي رائحة الحرمل، ولا للفجل أن يكون بصلا، ولا للثوم أن يكون خوخا، ولا للوز أن يكون فستقا، ولا للفت المحفور أن يكون باذنجانا.
 
وقالت أيضا إن حياة الروائح مرتبطة بعلاقات أخرى لتستمر في التعبير عن نفسها، وليس لها أي موقف مسبق من الشمس أو البرد أو الظلام. كلها تمضي نحو نفسها بالقدر الذي تمنحه لها الأشياء.  ولم  تقل إن هؤلاء الموتى الملفوفين في قماش أبيض لا رائحة لهم، ولا يستطيعون أن يميزوا بين الروائح. الرائحة تعني الحياة، وهم يرتجفون في مكان بعيد يبطل كل الروائح.  وهي؟ هل تشم الآن رائحتي؟

تذكرت كتاب "رائحة الفردوس" لخايمي غارسيا مارتنيث، فهب عليَّ قول خوان الثمل لحبيبته كريستينا: "لرائحتك معنى حاد كالموت. خرافة أعيشها بلسان يعجز عن وصفك. هل كان عليّ أن أختبئ من الأشياء التي شممتها قبل أن أعرفك؟ نعم ياحبيبتي، أنا مربي نحل، وأعلم ماذا يعني أن تتجمع رائحة تهزأ بكل الروائح السابقة في جسد واحد. رائحتك تحطم كل التحصينات الدفاعية ومضمرات الأنساق الثقافية. ثمّة شيء انتبهت له إليه يا حبيتي، رائحتك ليس رائحة. لم ينزلها آدم معه حين أُهبط إلى الأرض. صحيح أنه كلما مرَّت عليه رائحة عالقة في شجرة من شجر الفردوس أخذ غصنا من أغصانها، لكنه نسي أن يأخذ رائحتك. تركك هناك شجرة فريدة لم يمسسها آدمي. حين أشمًّك تهرب كل الروائح إلى نفسها. كلها تصبح عجينة صمغية لا رائحة لها".

أراهم يركضون بها. بيتنا منخفض. شيَّدوه بالطابوق على خاصرة الجبل، له باب صغير من الخشب يفضي إلى سلم ترابي غير مبلط. في الداخل غرفة واحدة فسيحة تفضي بدورها إلى سلم ترابي آخر يفضي إلى طابق آخر. أمي تجفف عرق جبينها بكم فستانها. تعجن وتستريح وتضع يدها على قلبها لتسمع ضرباته. هل سيأتي اليوم أم غدا؟ هل ستشم رائحة عرقه يتجدد على بشرتها؟ 

أشعر بأن رائحتها تتضاعف، وأن ذلك الرجل سيتبدى لها حين تنطفئ كل الأنوار. سيمسك يدها بحنان، ويقودها إلى الطابق العلوي أو إلى سطح البيت. الإضاءة خافتة. يستغرقان في بعضهما بحماس. يوقظ رائحتها، وتوقظ رائحته، فأتشكل ببطء داخل رحمها وأختبئ في ذلك المزيج السائل الذي يتفاعل بين نبضه ونبضها. أقضي ساعات طوالاً في تتبع الروائح. كنت أتشكل ببطء، بينما كان الرجل يذهب إلى مكان ما، في المدينة، ويعود آخر الشهر، محملا بالكثير من النكهات غير المرئية.  هل كنت أحب هذا الرجل الذي أذكر أن وجهه كان جافا، يدخن كثيرا، ويسرح في السقف دون توقف؟

أظن أن روائح كثيرة تخرج من عينيه. حين يأتي، تفتح له الباب الصغير على مصراعيه، وتجلس جنبه لتشرب الشاي. كلنا نتحلَّق حوله لنشرب ونأكل، ونذهب لننام باكرا. تقول أمي إنني أشبهه في كل شيء. أشبهه تماما في عمق عينيه البئريتين، وفي حركات يده ونفاد صبره وعناده، وفي قوة رائحته كلما مررت أمامها. أخبرتني أنني صورة مكررة منه، وأنني بطريقة ما السبب في موته المبكر.
 
قالت: "كان يعرف أنك موجود هنا، وأن رائحته سينتهي المقام بها لتحط على جسدك. سكب كل أوجاعه في منديل ومات، ولم تختف الروائح التي كان يحملها معه. احتشدت في مكان من جوفك. سعل ومضى. اعتقدنا أنه سيختفي. أنزلناه وأشهدنا على ذلك خلقا كثيرا، ثم عدنا ووجدناك تلعب في البيت، تتسلق السلم الترابي إلى السطح لتصرخ في وجه الغيوم التي تتعثر في مشيتها. كنت تعلم أنه مات ولم تبك. بدوت مستغربا لهذا الكم من الدمع المنسكب من عيون كل من تعرفهم. جلت ببصرك في وجوههم، ثم تابعت اللعب.."

.. ويا أمي، أعلم أن الدمع مالح، وأن للملح رائحة. لكن لماذا كانت الدموع والأمخطة تتدفق على كل الوجوه؟ لماذا نودع الموتى بالملح؟ لماذا نودع اللارائحة بالرائحة؟ كان يكفي مثلا يا أمي أن نرشهم بالملح بدل أن نودعهم به. هناك من يغمرهم بالجير حتى لا تكون لهم رائحة، وهناك من يدفنهم في أكوام الملح أو بين صخور الهاليت. لكن أجدادنا يؤكدون أن الملح الذي يتساقط من عيوننا حارق جدا، وأنه يتسبب للميت في حروق من الدرجة الثالثة. لم أبك يا أمي، لأنني أريد أن أحافظ لك على رائحته. أعرف أن من عادة الأطفال أن يغطوا وجوههم بأكمام قمصانهم ليبكوا، لكنني لست طفلا. لن أبكي. لست مِلحا. أنا رائحة..