حكايات الكتّاب مع جائزة نوبل ليست نادرة. أولاها قصة الكاتب الروسي بوريس باسترناك الذي واجه ظروفا خاصة مع الجائزة، حيث أجبر سنة 1958 على رفضها تحت تهديد السلطات الروسية. والثانية عاشها ألكسندر سولجنتسين الذي واجه سنة 1970 رفض الأكاديمية تنظيم الحفل في سفارة موسكو، حيث كان الكاتب قيد الإقامة الجبرية بسبب آرائه المعارضة. لكنه تسلم الجائزة في نهاية المطاف بعد أربع سنوات، مع حفل يليق به. قبل هذين الكاتبين نذكر أنه في عام 1926، كان جورج برنارد شو رفض المكافأة المالية لتلك الجائزة، مدّعيا بكل بساطة "أنه ليس في حاجة إليها". لكنه تراجع عن قراره لاحقا، وتبرع بالمبلغ لترجمة الأعمال السويدية إلى الإنكليزية.
في عام 1988، حصل عليها الأديب العربي نجيب محفوظ، لكنه لم يذهب بنفسه لتسلّم الجائزة الأهم في مجال الأدب، ليس لرفضه إياها، بل لرفضه السفر، فهو لم يكن يحب السفر، ولم يغادر مصر نهائيا إلا مرة واحدة تقريبا. فأرسل ابنتيه لتسلّم الجائزة نيابة عنه، وأوكل الأديب محمد سلماوي لإلقاء كلمته أمام الحفل.
أما المغني الأميركي الشهير بوب ديلان، الذي يعدّه البعض أغرب من حصل على جائزة نوبل في الأدب، فقد رفض في البداية الرد على جميع محاولات الاتصال من جانب مسؤولي الأكاديمية، كما أنه لم يعلن رسميا قبوله الجائزة إلا في وقت متأخر. وفي النهاية، لم يذهب هو أيضا إلى الحفل لتسلّم الجائزة في ستوكهولم في ديسمبر/ كانون الأول 2016 بسبب "التزامات أخرى"، وفقا لبيان صدر عن الأكاديمية، ذكرت فيه أنها تلقّت رسالة من الفنان تضمنت أنه كان يرغب في الحضور لتسلم جائزته، إلا أن التزامات أخرى منعته من ذلك، وأكد أنه يشعر باعتزاز كبير لنيله جائزة نوبل.
هانغ ورفض الاحتفال
قبل أن نعرض لحكاية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع هذه الجائزة، لنتوقف عند آخر من نالتها، وهي الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ، التي لم ترفض الجائزة كما فعل سارتر، بل اكتفت برفض إقامة أي احتفالات أو حتى عقد مؤتمر صحافي لمناسبة حصولها على الجائزة، متعللة بالأوضاع المأسوية التي يعيشها العالم حاليا، مثل الحرب في أوكرانيا والعدوان الإسرائيلي على فلسطين.
فبحسب ما أوردته صحيفة "كوريا تايمز"، "فإن هان كانغ، البالغة من العمر 53 عاما، تلقت خبر فوزها بجائزة نوبل للأدب، بوصفها أول كورية جنوبية تحصل على هذا التكريم، لكنها -وفقا لوالدها، طلبت عدم إقامة أي احتفالات في الوقت الحالي". وقد أكد والدها، هان سونغ-وون (85 عاما) في مؤتمر صحافي "أن ابنته لا ترغب في عقد مؤتمر صحافي خاصّ بها، مضيفا أنه كان يخطط لإقامة احتفال لها، لكنها طلبت منه التراجع عن ذلك... قالت لي: من فضلك، لا تحتفل في ظل هذه الأحداث المأسوية التي نشهدها، فالأكاديمية السويدية لم تمنحني هذه الجائزة كي نقيم الأفراح، وإنما لكي نبقى أكثر وعيا".
لم تذهب الأديبة الكورية إذن حتى رفض الجائزة ذاتها، وإنما اكتفت برفض الاحتفال. طبيعي أن تعود بنا الذاكرة، عندما نسمع الحديث عن "الرفض"، إلى سارتر وحكايته مع جائزة نوبل. ما زلنا نذكر مفاجأة العالم عندما أعلن "زعيم المثقفين" رفضه جائزة نوبل يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1964. في ذلك اليوم شرح سارتر هذا القرار في أعمدة صحيفة "لو فيغارو"، مدّعيا أن هذه الجائزة كانت ستجعل منه "مؤسسة"، وهو أمر "لا يتوافق مع رؤيته الشخصية للكاتب".
المثقف والمؤسسة
رغم أن هذا القرار قد تمّ إعلانه بسرعة كبيرة، فإن الكاتب الفرنسي نفى أن يكون موقفه هذا "وليد تصرّف ارتجالي"، مؤكدا أنه "طالما رفض الأوسمة الرسمية"، مستشهدا بمثال "وسام جوقة الشرف" الذي رفضه في عام 1945. بل إنه استبق الأحداث فوجّه رسالة إلى الأكاديمية السويدية ليحذرها من أنه سيرفض الجائزة، رغم يقينه بأن "قرارات لجنة التحكيم لا رجعة فيها".
ومما جاء في هذه الرسالة: "وفقا لبعض المعلومات التي تلقيتها اليوم، يبدو أن لديّ هذا العام بعض الفرص للحصول على جائزة نوبل. ورغم أن من الجسارة التنبؤ بنتيجة تصويت لم يحدث بعد، أسمح لنفسي في هذه اللحظة بأن أكتب لكم توضيحا تجنّبا لأيّ سوء تفاهم. أؤكد لكم أولا، سيدي السكرتير، احترامي العميق للأكاديمية السويدية وللجائزة التي كرّمت العديد من الكتّاب. ومع ذلك، ولأسباب شخصية وأخرى موضوعية، أودّ ألا يُدرج اسمي ضمن قائمة المرشحين المحتملين، وأنا لا أستطيع أن أقبل هذا التكريم، ولا أرغب فيه، لا في عام 1964 ولا في أيّ وقت لاحق".
حاول سارتر، سواء على صفحات الجرائد الكبرى، أو من خلال تصريحات متنوعة، أن يدافع عن موقفه، مؤكدا أساسا رفضه المطلق لأن يرتبط اسمه بمؤسسة من المؤسسات: "ليس الأمر سيّان إذا وقّعت باسمي "جان بول سارتر" أو إذا وقّعت: "جان بول سارتر الحائز جائزة نوبل"... على الكاتب إذن أن يرفض التحوّل إلى مؤسسة، حتى لو تمّ ذلك بأكثر الأشكال تكريما كما هو الحال هنا... ميولي دون شك تتجه نحو الاشتراكية وما يُسمى بالكتلة الشرقية، لكنني ولدت ونشأت في عائلة بورجوازية... لهذا السبب، لا أستطيع قبول أيّ وسام يُمنح من قِبَل الهيئات الثقافية العليا، لا في الشرق ولا في الغرب، رغم أنني أتفهم تمام التفهم وجودها".
أضاف: "وعلى الرغم من أن جميع ميولي تصبّ في صالح الاشتراكيين، فلن أكون قادرا على قبول جائزة مثل جائزة لينين، حتى لو أراد أحدهم منحي إياها، وهو ما لم يحدث... خلال حرب الجزائر، عندما وقعنا بيان الـ 121، كنت سأقبل الجائزة بامتنان، لأنها لم تكن ستكرّمني أنا فقط، بل أيضا الحرية التي كنا نناضل من أجلها. لكن ذلك لم يحدث، ولم تُمنح لي الجائزة إلا بعد نهاية المعارك".
أذكر الوقع الذي كان موقف سارتر هذا قد خلّفه. فقد أكّد وقتها في ذهن مثقفي العالم أجمع، وليس في أذهان مثقفي ما كان يصنَّف عالما ثالثا فحسب، أكّد الصورة التي تمكّن سارتر من أن يرسّخها عن نفسه كمثقف يساري، بل كمجسد لـ"المثقف الملتزم".
صحيح أننا سنسمع سنة 1976 أن صاحب "عارنا في الجزائر"، الذي سبق أن رفض كرسيا في "الكوليج دو فرانس" كما يروي ذلك ليفي-ستروس، قد وافق على "لقب دكتوراه فخرية من الجامعة العبرية في القدس". إلا أننا لم نتساءل، وقتها، كما لم يتساءل هو نفسه تلك المرة، هل من حق المثقف "أن يربط اسمه بمؤسسة"؟
عندما أراجع الآن موقف سارتر، بل ربما، كثيرا من مواقفه، وخصوصا بعدما ذكّرتنا الأديبة الكورية بموقف الرفض هذا، أراجع نفسي في الوقت ذاته، وأتساءل: هل رفض سارتر الجائزة مع قيمتها المادية التي ربما كان من أحوج الناس إليها، بدافع تلك المبررات التي بلورها في رسالته إلى سكرتيرية الأكاديمية، وخصوصا مبرّر ربط اسمه بالمؤسسة، أو الخوف من "التحوّل إلى مؤسسة" كما يقول، أم أنه كان يدرك، هو الذي كان وقتها نموذج "المثقف اليساري"، أن القيمة الرمزية لموقف الرفض، أعظم بكثير من القيمة المادية للجائزة؟ كأن أفضل جائزة كان ينتظرها صاحب "الوجود والعدم" هي أن تتاح له الفرصة كي يرفض مثل هذه الجائزة، وهذا مهما كانت قيمتها المادية والمعنوية.
أسمح لنفسي بهذا التساؤل، ليس لكون صاحب "المسألة اليهودية" سيربط اسمه بمؤسسة، بل بمؤسسة تبلور موقفا طالما طرحه موضع سؤال فحسب، وإنما أيضا لأن "الأخلاق" الوجودية لا تقوم على هذه البطولات، حتى لا نقول "أوهام بطولات".