العالم، كل العالم، بما فيه الأول والثاني والثالثي، يخضع طواعيةً أو قسراً لمنظومة "مافيوزية "أفرزتها الحربان الكونيتان، الأولى والثانية، وما نتج عنهما من ثنائية قطبية عمّرت ما يقارب نصف قرن من الزمن (نهاية الحرب الثانية في 1945؛ وسقوط جدار برلين في 1989)، بين الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو ووراءه أوروبا الشرقية ونصف ألمانيا المنهزمة من جهة؛ والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الشمال الأطلنطي ووراءها الغرب الأوروبي بمجمله والنصف الألماني الثاني من جهة ثانية، بينما تَفَرَّق باقي دول القارات الخمس بين هذين القطبين، قبل أن تتزعم "صين هو شي منه" مجموعة عدم الانحياز...
كنت أقول: كل هذا العالم، قد صار حالياً، بعد انهيار جدار برلين وتحوّل الخريطة العالمية إلى ما يشبه القطبية الأحادية بقيادة الولايات المتحدة، خاضعاً للثلة المافيوزية المتشكلة من المنتصرِين الأربعة الكبار الذين أفرزتهم الحربان، تضاف إليهم الصين، التي جاءت إلى مجلسهم بقوة الأشياء، نظرا لوزنها الديموغرافي المُهْوِل، وكذلك لصعودها الصاروخي في مجال الاقتصاد والصناعة والتجارة، وفي مضمار القوة العسكرية القائمة على صناعات حربية مرعبة صارت تصيب أعتى الجيوش بالدَّوار... ليصير المجتمع الإنساني في بحر العقود الثلاثة الأخيرة تحت رحمة خمسة كبار يفعلون في مصائر أهل الأرض ما يشاؤون!!
حسناً... فما علاقة هذه المقدمة بموضوع نزاعنا المفتعل حول صحرائنا، التي أنفقنا في سبيل استرجاعها أنفساً وثرواتٍ وعُهوداً زمنية لا تُعوَّض؟
كلنا يعلم أن الصناعات الحربية تشكل إحدى أهم الروافد والدعامات التي تَغتني من ورائها الدول الكبرى، المتقدمة والغنية أساساً، والتي تحرص هذه الأخيرة على تغذيتها بما تفبركه وتصنعه وتثيره من النزاعات في مشارق الأرض ومغاربها، وبما تمارسه داخل مجلس الأمن وهيأة الأمم المتحدة من بهلوانيات لم تعد تخفى على احد، من أجل استدامة بعض الصراعات، وطيّ صفحة بعضها الآخر، طبقاً لخيارات ممنهجة تتوافق عليها فيما بينها خلف السُّتُر والحُجُب، بينما تستمر مصانعها العسكرية في إنتاج الأسلحة اللازمة لإدامة ما تثيره من الصراعات، وتظل معاملها الصيدلانية في ابتكار وإنتاج اللقاحات والأدوية والعلاجات الضرورية لإبقاء ملايير المرضى متصالحين مع أمراض وآفات وأعطاب خرجت لأول مرة من نفس المعامل والمختبرات... وليبقى العالم برمته ضحية دوامةٍ وحلقةٍ مُفْرَغَتَيْن بين الحرب والسلم، وبين الصحة والمرض، وكل ذلك تديره وتدبّره في الخفاء شرذمة من المجرمين الماسونيين يفعلون في أرض الله ما يشاؤون... إلاّ أن يشاء الله رب العالمين!!
في خضم هذه المتاهة المستديمة، يأتي النزاع الذي افتعلته الجزائر مع جارها المغربي بإيعاز وهندسة من أحد أعضاء المافيا ذاتها، متمثلاً في دولة فرنسا الاستعمارية، بمباركة بطبيعة الحال من الأعضاء الأربعة الآخرين في مجلس الأمن، والواقع يؤكد ذلك ويكرسه بالملموس... فكيف ذلك؟!
إذا نظرنا إلى السنوات الثلاث الأخيرة وليس أكثر، فسنجد أن الجزائر نقلت ميزانياتها العسكرية ونفقاتها الموجهة للتسليح من 19 إلى 23 ثم إلى ما يزيد عن 25 مليار دولار، وأغلب هذه الاعتمادات المُهْوِلة يذهب إلى روسيا الاتحادية وشركاتها ومصانعها العسكرية واللوجستيكية، وبعض ذلك إلى الصين بحكم العلاقات القائمة بين الجزائر وهاتين الدولتين، المشكّلتين لامتداد المعسكر الشرقي الهالك؛ بينما نجد ميزانية الدفاع المغربية تتضاعف اضطراراً، ولضرورة الدفاع الفعلية والقصوى، إلى ثلاث مرات، من 4 إلى 7 ثم إلى 12، ويقال 15 مليار دولار، متجهة صوب الصناعات العسكرية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وبعض دول الناتو الأخرى، مع تحويل نسبة غير هينة نحو الصين وروسيا على سبيل احترام مبدأ الاختلاف النوعي، الذي يأخذ به المغرب في جميع مقتنياته من الأسلحة من القارات الخمس... مع تسجيل امتياز بالغ الخصوصية والأهمية لفائدة التسليح المغربي على نظيره الجزائري، يتعلق بالتفوق النوعي على الخردة الجزائرية ذات المصدر الروسي الأحادي، مما يجرد الجيش الجزائري من مَزِيّة التنوّع، ويحرمه من تعدد الخيارات الحاسمة عند نشوب أي حرب مباشرة مع الجار المغربي!!
المهم أن المغرب والجزائر سيظلان رهينين بخيارات الخمسة الكبار في الإبقاء على هذا النزاع الذي افتعلته صنيعة فرنسا الاستعمارية منذ ستينات القرن الماضي، أو إنهائه عندما يقر رأي المافيا الخماسية ذاتها على أنهائه لفائدة هذا الطرف أو ذاك الآخر، عندما يحين أوان الانتقال منه إلى نزاع أو نزاعات أخرى يتم إشعال فتائلها في بُؤَرٍ أخرى لنفس المقاصد والغايات!!
وإنّ الحرب الروسية الأوكرانية لا تخرج عن هذا الإطار بتاتاً، وإن كانت أسبابها مختلفة تمام الاختلاف، لأنها تعود إلى عملية ليّ الأذرع بين مكونات المافيا ذاتها، حيث توجد روسيا والصين وكوريا الشمالية في هذا النزاع في خندق؛ وأوكرانيا ومن ورائها الولايات المتحدة وفرنسا وحلف الناتو في الخندق المقابل!!
وما دام النزاع المفتعل حول صحرائنا مدِرّاً لأرباحٍ تُحسَب بعشرات الملايير من الدولارات أو الأوروهات، ويفوق في السنوات الثلاث الأخيرة 100 مليار دولار أو أورو، فإنّ هذا النزاع سيظلّ مستديماً ومزمناً... اللهم إلا إذا حدث أمر مفاجئ يغيب عن خلد المافيا اللعينة سالفة الإشارة، كوقوع انقلاب مفاجئ على عجزة الموراديا ينقل الحكم في الجزائر من أيدي هؤلاء إلى طغمة سياسبة مدنية يستطيع المغرب أن يفتح معها حواراً معقولاً يكون ضمن نتائجه ما يرغم الخمسة الكبار على البحث لهم عن نزاعات أخرى جديدة، وعن منفذ آخر لصناعاتهم المختلفة!!
مرة أخرى... سنعتبر هذا مجرد حُلم، ولكنه حلم قابل للتحقيق، ما دام الحلم مشروعاً والرقابة عليه مستحيلة بكل الوسائل!!
وعلى هذا الأساس نقول لتلك الطغمة المافيوزية التي تحكم العالم: رجاءّ أن تتحركوا من الآن فصاعداً بِرِفْقٍ وتُؤَدَةٍ، لأنكم الآن تَمشون فوق أحلامنا!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.