أحمد الحطاب: العطاء الإلهي لا حصرَ له

أحمد الحطاب: العطاء الإلهي لا حصرَ له أحمد الحطاب
كل قارئ للقرآن الكريم بتبصُّرٍ وتمعُّنٍ وتدبُّر، سيلاحظ أن هذا القرآنَ، من سورةٍ الفاتحة إلى  سورة الناس، يتحدَّث عن أحوال الناس وعن شؤونِهم الدينية والدُّنيوية. وسيلاحظ، كذلك، هذا القارئُ المتبصِّر، المُتمعِّن والمتدبِّر أن اللهَ، سبحانه وتعالى، من خلال كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، يريد الخيرَ لعباده. بل إنه يريد إسعادَهم في الدنيا قبل الآخِرة. والآيات الدًّآلة على هذا الإسعاد الذي، هو في الحقيقة، عطاءٌ إلهي لبني آدم، كثيرة، أخُصُّ بالذكر، من بينها : "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" (لقمان، 20).
 
فهل هناك عطاءٌ لبني آدمَ أكبر من هذا العطاء الوارد في هذه الآية الكريمة؟ وهنا، الضرورة تقتضي أن نقفَ شيئا ما عند فعل "سَخَّرَ". فعندما نقول : "فلانٌ سخَّرَ فلانا" فالمقصود هو أن الفلانَ الأولَ شغَّل الفلانَ الثاني، لكن بدون أجر، وذلك بغض النظر أن نوعية الأشغال، هل هي شاقة أو مُضنِية. وهذا معناه أن الفلانَ الأول "أخضع" الفلانَ الثاني للاشتغال لصالحِه بدون أجر، ولا يهمٌّه أن تكون الأشغال شاقةً أو مُضنيةً.
 
انطلاقا من هذا التوضيح، التَّسخير الإلهي (العطاء الإلهي) الوارد في الآية السالفة الذكر، هو في الحقيقة، إخضاعُ كل ما هو موجودٌ وما سيوجد من مُكوِّنات في السماوات والأرض لصالح بني آدم. وأحسن ما فوق هذا العطاء، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا ينتظر من بني آدم لا جزاءً ولا شكرا لأنه غني عن العالمين.
 
وإذا كان المقصود من السماوات هو المَجرَّات les galaxies، فالعطاء الإلهي لا حصرَ له.  لماذا؟ أولاً، لأن التسخيرَ، إذا اقترن بعقول نيِّرة ومستنيرة، سيُنتِجان عطاءً بلا حدود. ثاتيا، العلماءُ الفلكيون les astronomes وعلماءُ فيزياء الفضاء les astrophysiciens يقدِّرون عددَ المجرات بما يُناهِز 2000 مليار مجرة، علما أن هؤلاء العلماء الفلكيين والفضائيين لا يزالوا في بداية استكشافهم للفضاء. بل إن كلَّ مجرة تحتوي على ملايين النجوم والكواكب. فإذا سخَّرَ اللهُ، سبحانه وتعالى، كل ما يحتوي عليه هذا العددُ الهائل من مُكوِّنات السماوات، أليس هذا عطاءٌ لا حصر له؟
وعطاءُ اللهِ، سبحانه وتعالى، يشمل جميعَ الناس بغض النظر عن معتقداتِهم. والدليل على ذلك، قولُه، سبحانه وتعالى : "كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا" (الإسراء، 20).
 
في هذه الآية الكريمة، "هَـٰؤُلَاءِ" (الأولى) تعود إلى الذين أرادوا (اختاروا)، بمحض إرادتهم أن يستمتعوا بالدنيا على عجلٍ، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (الإسراء، 18).  
أما "وَهَـٰؤُلَاءِ" (الثانية) تعود إلى الذين أرادوا (اختاروا) أن يعملوا من أجل الآخرة، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (الإسراء، 19).
 
والآياتُ الثلاثة (رقم 18 و 19 و20)، آياتٌ متتالية ومن نفس سورة الإسراء. وكل هذه الآيات يُستَنتَجُ منها أن الناسَ، بفضل عقولِهم، هم الذين يختارون ما يريدون. يختارون إما أمورَ الدنيا بعجَلٍ وإما يسعون للظَّفَر بحسن المآب في الآخرة.
والآية رقم 20 من نفس السورة وبكل وضوح، تُبيِّن أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يُفرِّق بين عباده في العطاء (فيما يُوفِّره لهم من رزق)، أي لا يفضِّل، في هذا العَطاء (الرزق)، فئةً من الناس دون فئةٍ أخرى. يقول، سبحانه وتعالى : "كُلًّا نُّمِدُّ…"، "كُلًّا" تعني فئةَ المستعجلين للاستمتاع بالحياة الدنيا، وكذلك، فئةَ العَامِلين من أجل الحياة الآخرة. و"نُّمِدُّ" تعني نُعطي، نوفِّر أو نضع تحت تصرُّف، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (هود، 6). والدابة هي كل كائن حي يدبُّ (يمشى، يسير، يتنقَّل) فوق سطح الأرض، بما في ذلك الإنسان. أما الرِّزقُ (العطاء) قد يكون مالاً أو جاهً أو وفرةً في العلم (العلم بمفهومه الواسع الدنيوي وليس العلم كما يراه علماء وفقهاء الدين) أو صحَّةَ البدن أو رخاءً في العيش…
 
إن دلَّت هذه الآيات الثلاثة على شيءٍ، إنما تدل على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خلق الناسَ وتكفَّل بأرزاقهم. لكنه وفَّر لهم عقولاً ليختاروا ما هو في صالحِهم، أو ليختاروا ما من شأنه أن يُسعِدَهم في الدنيا قبل الآخرة، وذلك، بعد أن بيَّنَ لهم ما هو حقٌّ وما هو باطلٌ.
 
إذن، العقلُ، هو نفسُه نعمةٌ (عطاءٌ) من الله، عزَّ وجلَّ. ولو لم يرِدِ الله إسعادَ الناس، في الدنيا، لتركهم يتصرَّفون فيها بالغريزة، كما هو الشأن للحيوانات بجميع أشكالها وفصائلِها، التي تتقاتل وتتصارع من أجل البقاء la survie. لكن اللهَ، سبحانه وتعالى، كرَّم بني آدم وفضلهم على كثيرٍ من مخلوقاته بما في ذلك الملائكة، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء، 70).
في هذه الآية، فضلاً عن التَّكريم والتَّفضيل اللذان خصَّ بهما اللهُ، سبحانه وتعالى، بني آدم، واللذان تشير لهما الآية رقم 70 من سورة الإسراء، المشار إليها أعلاه،  فأين يوجد العطاءُ؟
 
يوجد العطاءُ حين قال، سبحانه وتعالى : "...وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ…". وكلمة "طَيِّبَات" تعني كلَّ ما هو حلالٌ وعفيفٌ وحسنٌ وجيِّدٌ وخيِّرٌ ورائعٌ ومُرضي ونبيلٌ وآمنٌ ونظيفٌ وغير مؤذي وكريم المعاملة ولَبِقُ الكلام وصافي القلب والنوايا وكل ما فيه تسامحٌ ولطفٌ ورحمةٌ ورأفةٌ… وباختصارٍ شديدٍ، كل ما ترتاحُ له النفسُ البشريةُ وحواسُّها. 
وهذا يعني أن "الطَّيِّبَاتِ" تشمل عطاءً واسعا وليس فقط ما طاب من الأكل والشُّرب. بل اللهُ، سبحانه وتعالى، عبر التَّسخير، وفَّر لبني آدمَ كلَّ ما هم في حاجةٍ إليه مادِّياً ومعنوباً.
مادياً من طعامٍ وشُربٍ ولباس ونقل ومال وأنعام… ومعنوياً من رحمةٍ ولطفٍ ورأفةٍ وتعايشٍ ومعرفةٍ وعلمٍ…، كما تشيرُ إلى ذلك الآية رقم 20 من سورة لقمان، المشار إليها أعلاه.
 
وخيرُ دليلٍ على أن عطاءَ اللهِ واسع ولا حصرَ له، يتجلَّى في أسمائه الحُسنى من قبيل الوهاب،  والرزَّاق والرَّحيم والغفور والغفار والرحمان والفتَّاح والباسِط واللَّطيف والكريم والواسع والبَرُّ والتَّواب والمُغني والمُعطي. أسماءٌ حسنى كلها  تدلُّ على العطاء الإلهي، الواسع واللامحدود.
 
وبعطائه هذا، يريد، سبحانه وتعالى، أن يُسعِدَ الناسَ في الدنيا قبل الآخرة. والدليل على ذلك أنه، عزَّ وجلَّ، يغفرَ للناس جميعَ ما ارتكبوه من معاصي وذنوب، إلا أن يُشرَكَ به، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا" (النساء، 116)، أو مصداقا لقولِه، عزَّ وحلَّ : "وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (النساء، 110).
 
واللهُ، سبحانه وتعالى، خلق الإنسانَ ونفخ فيه من روحه وصوَّره في أحسن صورة، و فضَّله على الملائكة وعلى جميع المخلوقات الحيَّة الأخرى.  فهل يعقل أن يكون النفخُ   والتَّصويرُ  والتَّفضيل أشياء عبثية، أي بدون غاية أو غايات؟ لماذا؟
لأن اللهَ لم يترك آدمَ وذرِّيتَه ضحايا لأنفسهم ولنزواتهم ونزعاتهم الغريزية penchants instinctifs التي قد تقودهم إلى ارتكاب المعاصي، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "...إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (يوسف، 53). بل اللهُ، سبحانه وتعالى، بعث للناسِ أنبياءَ ورُسُلاً لهدايتِهم إلى ما لهم فيه خيرٌ، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى :"وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (يونس، 47). وهذا دليلٌ آخر يبيِّن، بكل وضوح، أن عطاءَ اللهِ لبني آدمَ واسعٌ ولا حصرَ له.ثم لماذا بعث اللهُ، سبحانه وتعالى، للناس أنبياءَ ورسلاً؟
 
لأنه، عزَّ وجلَّ، يريد لهم (لبني آدمَ) الخبرَِ كلَّ الخير. بل يريد، بعد إسعادِهم في الأرض، أن يُسعدَهم في الآخرة، بإدخالِهم الجنةَ، إن هم استجابوا لرسالاتِه السماوية التي بعثَ من أجل نشرها رسُلاً وانبياء، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس، 25). في هذه الآية، "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ…" تعني يدعو إلى الجنَّة.
عطاء اللهِ، سبحانه وتعالى، لبني آدمَ لا حصرَ له. هذا هو ما يُستنتَِجُ من قراءةٍ متبصِّرةٍ ومُتَدَبَّرةٍ للقرآن الكريم.