محمد شيكر: الحزب الشيوعي المغربي ومغربة الشيوعية

محمد شيكر: الحزب الشيوعي المغربي ومغربة الشيوعية محمد شيكر

اعتمدت في مقالي هذا على وثيقة كانت مصنفة في الأرشيف الفرنسي عند صدورها في أول ابريل 1958 كوثيقة سرية تحت عنوان " دراسة حول الشيوعية بالمغرب"[1]. الوثيقة هاته أحاطت بكل الجوانب المتعلقة بظهور الشيوعية بالمغرب كفكر وكأيديولوجية وكتنظيم تمكن في نهاية المطاف من الاندماج في الحياة السياسية كحزب وطني وكفصيل اجتماعي نذر نفسه لمناهضة الامبريالية ومقاومة الاستعمار وكتيار فكري اشتراكي.

تعاملت الشيوعية المغربية مع الفكر الاشتراكي المهيمن ذي توجهات السوفياتية حتى لا نقول الستالينية بمرونة وبراغماتية حفاظا على استقلالية قرارها خاصة في مرحلة كانت تستوجب الالتزام بجانب المكونات الأخرى للحركة الوطنية والانضباط للتصدي للمشروع الاستعماري ووضع حد للحماية.

صحيح، لم تولد الشيوعية من رحم المجتمع المغربي ولم تتبلور عبر التناقضات الاجتماعية. وهذا شيء طبيعي. فالمجتمع المغربي لم يكن مؤهلا لاحتضان الرأسمالية وجعلها المؤطر للعلاقات الاجتماعية. فالطبقية أخفتها العصبية. والقبيلة قامت مقام الطبقة على أساس نمط انتاج دي الطابع الفزيوقراطي. قد يعتبر البعض هذا النمط فيودالي أو اقطاعي والحقيقة غير ذلك وهو ما فطن اليه ماركس فاختار نعت النمط الذي لا تنسحب عليه ما ينسحب على الأنماط الغربية بنمط الإنتاج الأسيوي، غير أن هذا الوصف لم يقنع عالم الاجتماع المغربي بول بسكون الذي فضل نعته بنمط الإنتاج القائدي لكون نمط الإنتاج "المغربي" لا يلغي الملكية الخاصة التي اعتمد عليها ماركس لتحديد طبيعة النمط الإنتاجي، بل بالعكس. وقد أثار موقفه هذا حفيظة رفاقه فانسحب في صمت من الحزب ليتفرغ للبحث بحرية ودون اكراهات أيديولوجية.

كان على بسكون الاكتفاء بوصف نمط الإنتاج "المغربي" بالقبائلي ويمدد بالتالي التحليل الخلدوني ويعمقه أكثر خاصة في بعديه المؤسساتي والاقتصادي. فعلى المستوى الأول، أفرز هذا النمط مفاهيم، كالجماعة والعصبية، نابعة من الواقع المعيشي في إطار التوزيع الاجتماعي للعمل وتنظيم يتلاءم والعيش المشترك، مفاهيم تستحق الوقوف عندها لطبيعتها وما لها من تأثير في تليين العلاقات الاجتماعية وامتصاص التناقضات الناجمة عن علاقات الإنتاج. هذه العلاقات لم تكن بتلك الحدة لترقى الى المستوى الذي وصلت اليه علاقات الإنتاج الرأسمالية. نحى بسكون منحى قد يكون الهدف منه ابراز أهمية مفهوم السلطة كمحدد لطبيعة النمط. وهذا يحسب له لأن القائد والشيخ والمقدم أظهروا فعاليتهم في تحويل أبناء قبيلتهم الى قطيع استساغ نوع من العبودية واستسلم لوع شقي أدى به الى الانسلاخ.

 

خلاصة القول، ان الشيوعية ليست منتوجا "بلديا "بل انها حطت الرحال بالمغرب في إطار أممي لتعزيز التوجه الذي كان سائدا آنذاك الرامي إلى دحض الفكر الرأسمالي وتسريع التفكيك الذاتي للرأسمالية، فكانت في البداية أداة أممية بامتياز أشرف على توطينها أجانب بالأساس من خلال الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يدين بالولاء للاتحاد السوفياتي وذلك بمساعدة مغاربة من ديانات مختلفة وقاطنين من جنسيات متعددة.

 استقرت الشيوعية في المغرب عبر هيئة تمثيلية للحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن تصبح حزبا سياسيا قائم الذات عرف بالحزب الشيوعي بالمغرب. من هنا تبلور العامل الأول للهوية والشخصية الشيوعية المغربية. فالانفتاح الذي يعد إحدى السمات البارزة للحزب الشيوعي المغربي - جاء عبر نشأته ومن خلال ممارسته التي أسقطت من قاموسها الاقصاء أو التمييز على أساس الدين أو العرق أو الأصل أو ما شابه ذلك. يكفي التذكير ببعض الأسماء القيادية من أبرزهم شمعون ليفي، وجوزف ليفي وسرفاتي أبراهم وسرفاتي افلين وليفي جوزف والمالح أمراح المعروف بإدمون والاطلاع على لائحة الأعضاء المثبتة بملحق الدراسة للوقوف عند هذه الحقيقة. ويكفي التذكير باصطفافه المبكر مع دعاة إعادة الاعتبار للأمازيغية كلغة وثقافة في وقت كانت القومية العربية تعيش أبهى مرحلة في تاريخها المعاصر، للتأكد من هذه الحقيقة كذلك.

هذا الانفتاح لم يسقط الشيوعية المغربية في شراك الأممية ولم يدفع بها للقبول بالتبعية بل دعم بعدها المحلي وجعل مغربتها تكتسي طابع الوطنية من خلال مراجعتها للتوجهات والأولويات الذي حددها الحزب الشيوعي الفرنسي لملحقته آنذاك، الحزب الشيوعي بالمغرب. فالشيوعيون المغاربة الذين كانوا يوجدون في مواقع قيادية متقدمة كعلي يعته والهادي مسواك وعبد السلام بورقية ومحمد بن عبد الله والمعطي بن صالح المعروف باليوسفي والحسين بن أحمد بنونة... استلموا القيادة بعد وفاة ليون سلطان (1945) فعينوا يعته أمينا عاما وتمكنوا بذلك من وضع الحزب على السكة المحلية والشروع في بناء ما يمكن تسميته "بالمدرسة اليعتوية" وذلك بتوجيهه للقيام بمهامه كأذاة نضال ضد الاستعمار وكطرف من الحركة الوطنية التي كانت في بداية نشأتها (1944).  في هذا الإطار، خلص الشيوعيون المغاربة الشيوعية المغربية من التبعية، فوفروا للحزب سيادته بانتقاله من حزب شيوعي بالمغرب الى حزب شيوعي  مغربيوكتأكيد لهذا ا لتوجه أزاح الحزب من بطاقة العضوية رمز المطرقة والمنجل.

لم تكن هذه الإجراءات كافية بالنسبة للفرقاء للقبول بالحزب كحزب مغربي يسخر جهده لخدمة الوطن ويقف موقفا إيجابيا من الدين بصفة عامة ومن الإسلام بصفة خاصة. فحزب الاستقلال كان مناهضا للشيوعية وكان- حسب الوثيقة- وراء ظهور حزب الحركة الشعبية الذي أشار على مستوى برنامجه بأنه" اشتراكي إسلامي", ذلك أن ما كان يعرف عن الماركسية آنذاك موقفها من الدين ك"أفيون الشعوب", و ما كان معروفا عن الأممية انها كانت تريدها ثورة عارمة تشمل كل المجتمعات التي تحت النفود الرأسمالي ولم تكن مقتنعة بالنضال الذي يقتصر على الأقطار التي كانت توجد تحت نير الاستعمار. كان هدفها سحق الفاشية وتفكيك الرأسمالية كنمط انتاج ومن تم وضع حد لنهب الشعوب واستغلال الانسان لأخيه الانسان. من المفارقة أن بوضع الوطنية في المقام الأول وإخضاع الشيوعية لخدمتها وأخذ مسافة من الماركسية الأرثودوكسية والحرص على استقلاليته عن الأممية سيجر الحزب عليه سخط الإقامة العامة في نفس الوقت سيتنكر له الفرقاء وسيحشدون كل ما يتوفرون عليه لمحاربته. فهو وطني بالنسبة للإقامة العامة وشيوعي بالنسبة للفرقاء. وهكذا، فمعاناة الحزب كانت على مستويين كحزب وطني في عهد الاستعمار وكحزب شيوعي بالنسبة للأحزاب الأخرى. كانت معاناته تتجلى في المنع المتكرر والتضييق الدائم والقمع الممنهج. وقد عاش فترات عصيبة منها فترة مع بداية الاستقلال كانت عبارة على حرب مواقع اتخذت في بعض جوانبها شكل «تصفية حسابات" حيث ذهب ضحيتها، حسب الوثيقة، ثلاثة مناضلين وهم ابن عبد الله عبد الكريم، وعبد الرحمان لمخنت وزوجته. كان على الحزب الشيوعي المغربي المقاومة على جبهات عديدة سياسة منها و   فكرية واجتماعية. فمقاومته للاستعمار كانت تجد في طريقها تنكر الفرقاء له وعدم الاعتراف به لما كان يمثله من خطر مفترض على مقومات المجتمع وثوابت الأمة. في هذا الاتجاه، أشارت الوثيقة الى أنه " رغم ضعفها الظاهري وتخفيها الارادي، فالشيوعية تبقى الخطر المحدق الأكثر خطورة سواء بالنسبة للمملكة حديثة الاستقلال أو بالنسبة لمواقع الغربيين في افريقيا".

إصرار الحزب على الاندماج كمناهض للاستعمار وانخراطه في الدفاع عن القضية الوطنية والتزامه اتجاه الحركة الوطنية، دفع باللجنة المركزية (فبراير 1946) بتبني توصية تدعو فيها الى وحدة الجماهير لخلق الشروط وتوفير الظروف لتحرير مغرب ديمقراطي وسيادي. وفي بيان غشت 1946, طالب الحزب بإلغاء كل الاتفاقيات مع فرنسا واسبانيا، وحذف الإقامة العامة، وتوحيد المغرب وانسحاب القوات الأجنبية وانتخاب جمعية وطنية مغربية. وفي 28 غشت 1946"استقبال السلطان (محمد بن يوسف) لوفد من الحزب الشيوعي المغربي سيكرس رسميا طابعه المغربي والمصادقة ضمنيا على برنامجه". هذه الالتفاتة ما كانت لتصدر من أعلى هرم السلطتين السياسية والدينية لو لم يكن الحزب الشيوعي المغربي حريصا على التعامل بطريقة إجابيه وبناءة مع الملكية التي لم يكن يرى فيها ما كان يراه الشيوعيون الأرتدكسيون وفئات متطرفة بجانب أخرى من البورجوازية الصغيرة الطفيلية. فالاستقبال هذا أعطى المشروعية للحزب وكرس انتماءه للحركة الوطنية وجعل منه رقما له مكانته في المعادلة الوطنية. و "في 1957, مولاي الحسن -هو نفسه-, خلال محاضرة، صرح ان تسرب الشيوعية بالمغرب كان مبالغ فيه وهو "لا يمثل أي خطر"".

إذا كان التوجه الوطني رسخ الطابع المغربي (أو لنقل المحلي) للحزب الشيوعي فان انفتاحه في مراحله الأولى وفر له صيتا واشعاعا غير مسبوقين. فجميع الفئات كانت ممثلة حسب الهيكلة التالية:

 

%55

الموظفون وما شابههم

%25

                العمال 

%8

الصناع والتجار

%6

المتقاعدون ومن لا حرفة لهم

%       4

 

الحرف الحرة

%2

الفلاحين

%100

المجموع

                            

 في 1946 تمكن الحزب من تحقيق رقما قياسيا تجلى في عدد الأعضاء الذي وصل الى 14052 عضو. بعد نفي علي يعته سنة   1948 وانسحاب أربويون بعد أن تمغربت قيادة الحزب والتوسع الكبير الذي عرفه حزب الاستقلال، تقلص عدد المنخرطين حيث لم يتجاوز سنة 1949 ما يناهز   4421 ليرتفع من جديد سنة 1955 حيث طبع الحزب 10.000 بطاقة وفي 1956 بلغ هذا العدد 21.000بطاقة (عدد البطاقات لا يعني عدد المنخرطين و لكنه يعطي فكرة على القاعدة الحزبية). في المجمل تراوح عدد أعضاء الحزب سنة 1958 ما بين 9000 و12000عضو بعد أن انتقل من 1243 عام 1937 الى 6246 سنة 1944. ومع تقلص قاعدته تقلص مجاله الجغرافي فاقتصر بالأساس على المجال الحضري المتمركز. فبؤره الأساسية وجدت بالدار البيضاء والرباط ومكناس وبني ملال. كما فقد مواقع مؤثرة من خلال أضاعته مراقبة بعض الصحف التي كانت تساهم بشكل كبير في صنع الرأي العام ويتعلق الأمر بالخصوص . L’Action syndicale  و    le petit marocain

هذا المنحى الذي سينقل الحزب من حزب كان يطمح للجماهرية الى حزب اقتصر على النخبة والذي سيؤدي به الى التراجع على مستوى الريادة وسيجعل ميزان القوى في غير صالحه، يعود السبب فيه بالأساس الى محاصرته من جهة، حيث كان يعاني من المنع ومطاردة مناضليه و   اهماله، حتى لا نقول تخليه، من جهة أخرى، على الركيزة النقابية التي اعتمدها في بداية نشأته والتي كانت المحدد الرئيسي في توطينه وانتشاره[2]. لابد للإشارة هنا الى 3عناصر كان لها دورا حاسما في هندسة النقابة بالمغرب. الأمر يتعلق ب س.ج. ت. والمحجوب بن الصديق والطيب بوعزة.

 فاذا كان للمنع محاسن خاصة على المستويين التنظيمي وبرفاييل المناضل فان للتخلي عن الأداة النقابية عواقب وخيمة على مستوى الاشعاع وبالتالي على جماهريته وما يترتب عنها من اضعاف شوكته عبر تقليص قاعدته والتشويش على فكره. تخليه عن الأداة النقابية كان خطأ استراتيجيا لازال يؤدي ثمنه الى الآن. فانسحابه من الحقل النقابي أدى الى خلو الجو لمنافسيه ليبيضوا ويصفروا وليدفعوا به الى الزاوية كحزب ضعيف لا قدرة له على فرض رأيه.

هذا الضعف لم يثنيه على الدعوة الى التكتل وخلق جبهة موحدة لرفع التحديات على أساس أرضية (أو ميثاق) مشتركة وخطة طريق متوافق عليها. فحزب شيوعي كالحزب الشيوعي المغربي ما كان ليسخر "شيوعيته" لغير الوطن بالنظر للأهمية التي يوليها للوطنية التي استند عليها لتقعيد صرحه وذلك بالأخذ بعين الاعتبار بطبيعة المرحلة وموقعه منها. من هنا جاءت دعوته الى خلق جبهة مادام التناقض الرئيسي تناقض وجودي يعرض المغربي الى الانسلاخ ان لم يكن الاندثار، بغض النظر عن انتمائه الطبقي. فالحزب الشيوعي المغربي كان الأكثر وحدوي والأكثر استعدادا للتحالفات الطبيعية منها والغير طبيعية إذا كانت هذه التحالفات تخدم من منظوره المرحلة. ما لم ينتبه اليه الحزب هو أن الوحدة والتحالفات غالبا ما تخدم الأقوى وتسير في الاتجاه الذي يريده لها قائدها والمتحكم فيها. الجدير بالذكر، أن الوحدة تحققت في إطار الكتلة دون أن تحقق هذه الأخيرة ما كان يصبو اليه الحزب الشيوعي. فالتكتلكما أشرنا اليه من قبل- يخدم الأقوى وقد تكون لفشله انعكاسات سلبية. ولعل في التجربة المغربية ما يؤكد هذا. فأحزاب الكتلة هم ضحايا الكتلة نفسها.  أين نحن من اليسار ما قبل 1998؟

فيما يخص التنظيم، فتنظيم الحزب كان تنظيما محكما. أعطى الأهمية لما هو مؤسساتي. فهناك اللجنة المركزية (كان عدد أعضائها في بعض المراحل لا يتجاوز 13 والمكتب السياسي، واللجنة المركزية للمراقبة السياسية التي كانت تعين في جلسة سرية من طرف اللجنة المركزية التي كانت تتكتم عن أعضائها، واللجنة المركزية للمراقبة المالية واللجنة المركزية للصحافة، واللجن الجهوية، والقطاعات، والخلايا، والمجموعات. كما كانت تحرص على ما هو موازي أو ملحقالشباب الشيوعي" و "أصدقاء الديمقراطية" و "الصدقات الشيوعية" و "الاتحاد النسوي المغربي" و" جمعية قدماء المحاربين" بوجدة...) بجانب تركيزه على ما هو منهجي أخدا بعين الاعتبار تعرضه المستمر للمنع، باعتماده الفصل بين الخلايا حيث لم تكن تشكل شبكة ولكن جزرا تتواصل عبر القطاع، والقطاعات نفسها لا تتواصل فيما بينها ولكن عبر الجهة.                                                                                

 أما على مستوى برفاييل المناضل فيختلف عن برفاييل مناضلي الأحزاب الأخرى كما يختلف من مرحلة الى أخرى، فبرفاييل مناضل الحزب الشيوعي ليس هو برفاييل مناضل التحرر والاشتراكية. وهذا الأخير ليس هو برفاييل مناضل التقدم والاشتراكية. فالشيوعي تعاطى للنضال من باب التضحية، والتحرري جاءه ولسان حاله يقول "لا نريد جزاء ولا شكورا". أما التقدمي فقد لا يختلف كثيرا في تعريفه للنضال عن تعريف المتحزبين من مختلف المشارب. فاذا كان الحزب، بمفهومه العام، البارحة أداة أيديولوجية بالأساس الهدف منها تحقيق الحلم الجماعي (حلم طبقة) فهو اليوم جسر بالدرجة الأولى لتحقيق المآرب الشخصية أو الفئوية. أصبح رجل الشارع لا يفرق بين اليمين واليسار بل ولا يميز حزبا عن آخر، فالكل بالنسبة اليه " أولاد عبد الواحد " وهم بهذه الصفة "واحد". ولعل التجربة الحكومية للأحزاب بغض النظر عن تفاوتها واختلافها من حزب الى آخر رسخت الاعتقاد بالمقولة المشهورة "لا يوجد بين القنافد أملس". هذا التطور الذي له أسبابه الموضوعية والذي لا يقتصر على التجربة المغربية وضع اليسار عامة، بعد سقوط جدار برلين، في وضع لا يحسد عليه وأفقد الحزب الشيوعي بالخصوص موقعه الاعتباري.

في الختام، ما يمكن استخلاصه من الوثيقة يتجلى في    المثابرة التي جعلت الحزب الشيوعي يتصدى لكل المحاولات لتقويضه سواء في فترة الاستعمار أو فيما بعدها والتي دفعت به الى المقاومة. فتغيير اسمه من شيوعي الى تحرري قبل أن يستقر على تقدمي لم يأت اعتباطا أو في إطار استراتيجية ماركتين بل جاء نتيجة تمسكه بوجوده ورغبة منه في متابعة مسيرته. فخلال ما يفوق 50 سنة برهن الحزب الشيوعي على قدرة التحمل ومهارة في تدبير المراحل العصيبة. مكنته هذه المثابرة، مستندا على الصبر ومعتمدا على الوقت، من الخروج مرات عدة من عنق الزجاجة ومن تثبيت وجوده.

 

تجدر الإشارة الى أن الحزب لم يكن مثابرا لو لم يكن متزنا ومعتدلا. لم تكن تغويه المغامرة. لم يكن يسعى الى السلطة بقدر ما كان يسعى الى جعل السلطة تحت مراقبة الشعب بإعادة الاعتبار لهذا الأخير وتمكينه من سيادته. يكفي الاطلاع على برنامجه السياسي في الأربعينيات للوقوف عند هذا الأمر. ففي الفصل الخاص بالسياسة الداخلية من برنامجه العام طالب الحزب من بين ما طالب به، اعداد وانجاز انتخابات عامة وتكوين جمعية وطنية تأسيسية وتشريعية. ان الشيوعية المغربية شيوعية براغماتية، تعتمد الماركسية في جانبها المنهجي أكثر منه الأيديولوجي وتتعامل مع الواقع من منطق البراكسية.

 

بجانب هذا، تميز الحزب الشيوعي بالجرأة (المطالبة مبكرا بوضع حد للحماية، والدعوة الى جبهة وطنية، والخوض في مواضيع منها ما كان يعتبر من الطابوهات كالمسألة الأمازغية). كما كان له غالبا قصب السبق كقوة اقتراحية نتيجة اجتهاده ونزعته الابداعية. إضافة الى هذا، فالحزب الشيوعي كان له حضور متميز على المستوى الثقافي الى حد أنه كان ينعت بحزب المثقفين. من أشهر المثقفين الذين مروا عبره فاستقروا به أو تركوه بعد فترة هناك عبد الكبير الخطيبي، وجرمان عياش، وألبير عياش، وعبد العزيز بلال، وبول بسكون، وعبد اللطيف اللعبي، والمالح...الخ. ويحسب لقيادته اهتمامها بالكتابة، فأمينه العام، علي يعته، نشر مجموعة من الكتب كذلك الشأن بالنسبة لعبد العزيز بلال الذي، حسب الوثيقة، التحق بالحزب وهو محاسب بوزارة الفلاحة. فاختيار الحزب للكتاب كرمز طابق ولفترة طويلة واقعه واختزل ما كان يميزه على الأحزاب الأخرى.

 هذه الميزات لم تشفع لحزب نشأ ليكون حزبا جماهيريا. فرغم ما توفر له من مؤهلات وما كان له من قدرات، فالحزب الشيوعي ظل حزب الخاصة أو النخبة الى عهد قريب. أبهر على مستوى المناورة لإسماع صوته وأبدع على مستوى الهامش للتموقع حفاظا على وجوده دون أن تكون له قاعدة جماهيرية. لكن النخبة ستنفض تدريجيا من حوله نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية مرتبطة بالإحباطات الداخلية وتفكيك المنظومة السوفياتية. فالحزب الشيوعي أكثر الأحزاب ارتباطا بالفكر. والفكر منذ فترة يعيش وضعية متأزمة لا يحسد عليها. في هذا الإطار تقلصت قاعدة زعامة الحزب بشكل مهول نتيجة تقلص قاعدته النخبوية وأصبحت إشكالية الخلف مطروحة بحدة وأصبح الحزب معرض الى الانعراج ان هو تخلى عن المدرسة اليعتوية.

 

[1] الوثيقة موجودة بمركز الوثائق التاريخية للمقاومة و التحرير – المندوبية السامية للمقاومة و جيش التحرير, رقم الصندوق (الكارتون)

GR10R877-pp 107-144.  [2] (UGSM- CGT)

محمد شيكر، كاتب واقتصادي