عبد السلام بنعبد العالي: في الأزمة.. الفكر نقد وخلق أزمات

عبد السلام بنعبد العالي: في الأزمة.. الفكر نقد وخلق أزمات عبد السلام بنعبد العالي

منهج الإبداع في تجديد ذاته

لعل أنجع السبل لتحديد مفهوم الأزمة هو أن نتذكر ما كان يعنيه هذا المصطلح عند أطباء اليونان القدماء، بدءا من أبقراط. فاللفظ الإغريقي "كريسيز" (krisis) الدال عليها، والمشتق من الفعل "كرينو" (krinô) يعني عندهم "الفصل" و"التمييز"، الأزمة تشير إلى اللحظة التي يحسم فيها الفصل، ويتقرر فيها المصير. في تطور المرض، تمثل الأزمة المرحلة الحاسمة التي تؤدي إما إلى الشفاء أو إلى الموت. فالأمر لا يتعلق بعملية لا نهاية لها، ولا بمخاض ينتهي حتما نهاية سلبية. إذ أن هناك احتمالا لحل إيجابي. صحيح أنه ليس مؤكدا، لكن الأسوأ ليس مؤكدا كذلك. الأزمة موجعة، وهي تتسبب بحالة "حرجة" (تستعمل اللغة الفرنسية في هذا المعنى كلمة critique المشتقة من الأصل نفسه)، لكنها قد تنتهي إيجابا كما قد تنتهي سلبا، قد تتوج خيرا، أو قد يكون مآلها الشر المحتوم.

حالة عبور

الأزمة إذن حالة مرضية، وهي دوما حالة عبور وانتقال، هي دوما "أزمة عابرة"، وهي خلل واختلال، بل هزة ورجة، الا أنها قد تتدارك نفسها، فتستقر في توازن جديد تعود المنظومة بفضله إلى "صحتها"، فتواصل العمل بشكل طبيعي. لكن هذا لا يعني مطلقا نفي الإمكان الآخر الذي يعمل على تعطيل المنظومة بالكامل فيوقف عملها ويقضي عليها.

وهكذا ففي الحالتين كلتيهما يتم عدم قبول المفهوم "القيامي" عن الأزمة، الذي يرى بأنها "قدر" يتسلط على المنظومة من خارج و"ينزل" من فوق، فيهز أركانها ويخلخل توازنها. لا ينظر إلى الأزمة هنا إلا في كونها "مخاضا" ذاتيا يخلق توترات ويهز بنيات، لكنه قد يتمخض عن انتعاشة وتجدد، كما قد يسفر عن تعطيل وتوقف.

ليست الأزمة إذاً مرادفة بالضرورة لمفهومات الانهيار والسقطة، وإنما هي تدخل ضمن نسيج الحركة التاريخية للمنظومة. على هذا النحو ينظر النظام الرأسمالي إلى نفسه، فلسفة وإبداعا واقتصادا وسياسة، على أنه لا ينمو إلا عبر أزمات. فهو يعتبر أن الأزمة مقوم من مقوماته، وأنها من صميم حركته وسيره، وأنها دعامة من دعائمه، وليس على أنها لعنة تتسلط عليه من خارج. فليست الأزمة مجرد حالة سلبية ظرفية عرضية. إنها تطبع المقومات الفكرية للمنظومة ولمؤسساتها السياسية وآلياتها الاقتصادية.

لا يعني ذلك أن الأزمة لا بد أن تلحق المنظومة بكاملها، فهي كما قلنا، مثل المرض، أي أنها قد تصيب جهازا من غير أن تلحق الآخر. هذا شأنها عندما تلحق المجتمعات، فقد تظل مجرد أزمة قطاعية لا تلحق المنظومة بكاملها ضرورة. فإذا سلمنا بأن كل تشكيلة اجتماعية متفاوتة المستويات، متعددة الأزمنة، بحيث لا يكون زمان السياسي بالضرورة هو زمان الاقتصادي، ولا هو بالأولى زمان الثقافي، تبين لنا أن الأزمة لا يمكن أن تكون إلا قطاعية، وأنها قد تكون عسرا ووبالا على مستوى، لكنها تكون يمنا وبركة على آخر. لنتذكر المجتمع الإسلامي خلال القرن الرابع الهجري بأزماته السياسية والاقتصادية المتلاحقة كما وصفها المؤرخ ابن كثير على سبيل المثل، ولنتذكر أيضا الازدهار الفكري الذي عرفه القرن. ولنا في تاريخ أثينا، وتاريخ أوروبا الحديثة كثير من الأمثلة على الازدهار الفكري الذي عرفته ما نعتت بفترات الأزمات.

أزمة إبداع؟

كان رولان بارت كتب: "منذ أن بدأت أمارس عملي الثقافي وأنا أسمع عن الأزمات: أزمة النشر، وأزمة النقد، وأزمة القراءة، وأزمة الإبداع، أزمة الرواية وأزمة الشعر، وأزمة السينما..."، وعلى رغم ذلك، هو يعترف بأن كل هذه الفنون والأجناس لم تعرف قط الازدهار الذي عرفته خلال حياته. لذا فعندما يتساءل عما نعنيه عندما نتحدث عن "أزمة الرواية" على سبيل المثل، يجيب: "إن هذا لا يعني الا أننا لم نعد نضع كلمة 'رواية' عندما يتعلق الأمر بالروايات، لكن، بإمكاننا أن نضعها عندما لا يتعلق الأمر بالرواية". ولعله الأمر ذاته حينما نتحدث اليوم عن أزمة السينما أو أزمة القصيدة، أو أزمة الفنون التشكيلية. نكون أمام أزمة إبداع أو أزمة كتابة عندما تظهر نصوص "متمردة" يتعذر علينا تصنيفها ضمن جنس بعينه من الأجناس المتداولة. النص المتمرد هو الذي ينفصل عما يجري به الأمر عادة، وهذا هو النص بالتحديد في نظر بارت. فلا نصوص من غير أزمات. الأزمة لاصقة بكل نص بما هو كذلك. والتأزيم جوهر كل كتابة، بل جوهر كل إبداع.

في هذا المعنى، ليست الأزمة بالضرورة علامة على ندرة وشح. نتأكد من ذلك لو أننا أخذنا مثلا خارج الإبداع الأدبي واستقيناه من تاريخ العلوم. ولنتوقف، على سبيل المثل، عند ما عرفته الرياضيات من أزمات خلال القرن التاسع عشر. المعروف أنها عرفت، في مختلف فروعها خلال ذلك القرن، أزمات متلاحقة طالت في البداية ميدان الهندسة مع ظهور "الهندسات اللاأوقليدية"، وانتهت بما عرف بـ"أزمة الأسس" وظهور الجبر الحديث. حينما ظهرت تلك الهندسات في أنحاء مختلفة من المعمورة (ريمان، بولياي، لوباتشيفسكي)، لم يكن هناك شح هندسي، بل وفرة هندسات وتعدد منظومات. إذ تبين أنه يكفي تغيير إحدى مصادرات أوقليدس لإقامة هندسة مخالفة. إلا أن الذي اتضح هو أن الجهاز المفهومي الإبيستيمولوجي الذي كانت تقوم عليه الهندسة الأوقليدية بمفهوميها عن الحقيقة والبداهة الرياضيتين، لم يعد بإمكانه أن "يعمل" إلى جانب الهندسات المستحدثة، كما تبين أن ما اعتقده فيلسوف في حجم إيمانويل كانط من "كون الهندسة خرجت مكتملة من يد أوقليدس مثلما خرج المنطق من يد أرسطو" أمر غير مؤكد.

تكمن الأزمة إذا في كوننا أصبحنا نسمي حقيقة هندسية ما لم يكن أوقليدس ينعته كذلك. ها هنا أيضا فإن الأزمة تجلت في عدم مواكبة جهازنا المفاهيمي لمستجدات الأمور. الأمر الذي سيدعو الى إعادة النظر في مفهوم الحقيقة الرياضية، بل وفي تحديد طبيعة "الكائن الرياضي" ذاته، بل في معنى المنظومة الرياضية ذاتها.

 

ما يهمنا هنا هو أن الخلل الذي لحق منظومة أوقليدس لم يكن لعنة تسلطت عليها من خارج، وإنما كان وليد "مخاض ذاتي" نتج من تكرار محاولات البرهان على إحدى مسلمات أوقليدس، كما أن ما تمخض عن ذلك الخلل لم يكن سلبا بالمرة، وإنما كان، على العكس من ذلك، ثراء هندسيا، وغنى إبيستمولوجيا، ورجة فلسفية أصابت "العقلانية" التقليدية في أحسن المجالات التي أثبتت فيها نجاعتها، وفي "طريقها الملكية" بتعبير كانط.

وربما بإمكاننا أن نذهب إلى القول إن ذلك قد غير مفهومنا عن التفكير ذاته، أيا كان مجاله. فإذا نحن تحررنا من هذه العقلانية "التقليدية"، ولم نعد نقتصر على النظر إلى الفكر على أنه بحث عن البسائط لاتخاذها منطلقا لكل تفكير قويم، فاعتبرنا التفكير بالأساس، تراجعا وانعكاسا Réflexion ونقدا، فإنه سينحل دوما إلى عملية تأزيم، ويغدو الفكر نقدا وخلق أزمات critiquer, c'est mettre en crise، فلا تغدو الأزمات أمراضا تلحق الفكر، وإنما هزات تخلخله ولا تنفك تعيد بناءه.
 
عن مجلة "المجلة"