قال: إن الجزائر عندما دخلت إليها فرنسا سنة 1830 كان تعداد سكانها أربعين مليون نسمة، وعندما غادرتها سنة 1962 لم يعد فيها سوى تسعة ملايين نسمة (!!!).
في الواقع، لا أعتقد أن أحداً يمكنه أن يفسر هذه القفزة العددية الجبارة في تَمَثُّل الرئيس الجزائري للواقع من حوله، فما بالنا عندما يتجه بنظره المثقوب... عفواً، الثاقب، صوب تاريخ بلاده، التي أنشأتها فرنسا سنة 1962 يوم منحتها مرسوم "تقرير المصير"، وليس "الاستقلال" الذي لم تحظ به إلى غاية يومه، ليبدأ في جرد معطيات ما أنزل الله بها من سلطان، وقد لا يجد المرء مثيلاً لها في أكبر المصحات العقلية... من بين ذلك، تقديم الرئيس الأمريكي جورج واشنطن مسدسين من مسدسات "الويستيرن" للأمير عبد القادر الجزائري، الذي لا يعرف أحد من العالمين من أين جاءه لقب الإمارة، علما بأن جورج واشنطن توفي قبل ميلاد هذا الأمير "الشارد خارج التاريخ"!!
من ذلك أيضاً، نقل عدد الشهداء من مليون شهيد (صناعة مصرية)، إلى مليون ونصف (صناعة جزائرية)، ثم إلى ستة ملايين ونصف، ثم إلى اثنى عشر مليوناً... وها هو الآن يجعلهم واحداً وثلاثين مليونَ شهيد، متهما فرنسا بممارستها حرب إبادة ضد بلاده طوال 132 سنة من "التملّك والاستحواذ"... ولله في خلقه شؤونٌ وحِكَم!!!
من الأكيد ان السي عبد المجيد، عند لقائه بصحافييه المفضلين، والذين يَبدو من خلال مظهرهم أنهم أكثر غباءً وتَبَلُّداً، كان قد ألقى في جوفه ما تيسر من الكؤوس كعادته، ولذلك كان يستعمل في حديثه لسانا ثقيلاً ومتلعثِماً كعادته أيضاً، فجاء كلامه مثيراً للشفقة والازدراء، لأن مجرد تصوّر بلد مشتت الأوصال كالجزائر بأربعين مليون نسمة، في بدايات القرن التاسع عشر، يكفي وحده لرمي القائل بكل نعوت العته والخروج عن المعقول وعن الواقع!!!
والحال أن الأوصاف والنعوت في مثل هذه المواقف لا تُسعفُها الكلمات مهما حاول الواصف أن يَخرج هو ذاتُه عن الواقع على سبيل المُحاباة والمسايرة!!!
إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية من جهتها، ألحّت على إظهار فكرة "الإبادة" هذه، فوضعت تحتها خطوطاً عريضة وبكل الألوان، فبدت بذلك وكأنها تستفز ضيوفها لتجعلهم يقولون ما لا يحبّون في العادة قوله، حتى أن أحدهم قال بالفم المليان: إننا، يقصد فرنسا، أعطينا للجزائر كل ما يجعل منها دولة، بالدلالة القانونية للكلمة، وتركنا فيها بنيات أساسية ما كان للجزائريين ان يُنشئوها لأنهم كسالى وجاهلون وفوضويون وسيّئو الأخلاق... ثم ختم كلامه بالقول إن فرنسا باعترافها بمغربية الصحراء لم تفعل سوى أنها أعادت الأمر إلى نصابه، وأن موقفها هذا يكرس لعدالة ومشروعية قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، وأنه يكفي للمرء أن يُمعن النظر في خريطة المنطقة لتتبدّى له الحقيقة دون كبير عناء!!
الحال أننا، كمغاربة، لا ننتظر من فرنسا أو غيرها أن تعترف لنا بعدالة قضيتنا، لأن هذا يجري في عروقنا وأوردتنا مجرى الدم، وإنما المشكل في هذا الاعترافِ هو أنه مشكلٌ جزائريٌّ بامتياز، لأن جزائر السي عبد المجيد تبون هي التي جعلت من مغربية صحرائنا إهانةً لشرفها وكرامتها، وهتكاً لبكارتها وعُذريتها، ومساساً بسيادتها الوطنية... وهذا ما لم يفهمه العالم من حولنا في بداية الأمر، قبل أن يقتنع الجميع، الآن، بأن النظام الجزائري إنما يُعبّر بذلك من خلال وعيه ولاوعيه عن أطماعه الدفينة ليس فقط في أن يكون له منفذ على المحيط الأطلسي، بل في أن يقتطع من ترابنا جزءاً آخر غير الذي اقتطعته أمه البيولوجية وضمته إلى ترابه منذ بدايات نهايات وجودها الرسمي فوق ذلك التراب اللقيط، الأشبه بعباءة الدراويش الملئى بالرُّقَع من مختلف الأشكال والألوان!!
نعم... إن للنظام الجزائري مطامِعَ في أجزاءٍ من ترابنا الوطني الجنوبي لم تعد تخفى على أحد، رغم عِلم ذلك النظام، وحوارييه، وكل من يدورون في أفلاكه "البتروغازية"، بأن المغاربة لن يفرطوا في حبة رمل من ترابهم الوطني، ولن يهدأ لهم بال حتى يسترجعوا كل ما سرقته فرنسا من شرق وجنوب شرق ذلك التراب، ولو أدى الأمر إلى خوض حرب مؤبدة يمتد مداها إلى كل الأجيال القادمة!!
الغريب في كل ما سلف ذكره أن الجزائر، ونظامها البالغ أقصى درجات الغباء، يعلمان علم اليقين بأن أطماعهما لن يتحقق تكريسها على أرض الواقع مهما طال الأمد، لأنهما ها هُنا أمام دولة مؤسسات... دولة، لها في تربة التاريخ جذور يستحيل أن تقتلعها شرذمة من العجزة المصابين بكل أشكال الإدمان والخرَف والعَتَه، وقد علما، الدولة ونظامها المخبول، من خلال أحداث التاريخ ودروسه وعِبَره بأن دولة المغرب، التي أوقفت جحافل العثمانيين وحالت بالقوة دون تَخَطِّيهم حدودَها، والتي لجأ العثمانيون إليها بقدّهم وقديدهم لتُعينهم بالمال والسلاح والأساطيل على مواجهة هجمات الصليبيين طوال ثلاثة قرون وعقدين من الزمن، هذه الدولة المغربية، الأمبراطورية، من العبث أن يحتمل عاقل، مجرد احتمال، سماحها بأن يطال ترابَها الطاهر أمثال أولئك المدمنين من "شماكرية" التاريخ، وَسِيطِه وحَديثِه!!!
ونعود لحديث السي عبد المجيد تبون وتخاريفه وهرطقاته، والذي يبدو أن القلم قد رُفِع عنه بشكل رسمي، لنفهم أن تحامله العجائبي هذا، على حبيبة قلبه فرنسا، ليس إلاّ محضَ مُزايدةٍ ومحاولة يائسةٍ للابتزاز لعله يُثني رئيسها عن اتخاذ ما يُتَوَقَّعُ اتخاذُه من خطوات أخرى أكثر إحقاقاً للحق، وأوفى تصحيحاً لأخطاء فرنسية ماضية إزاء بلادنا وقضية وحدتنا الترابية، كفتح قنصلية فرنسية بمدينة الداخلة، تكون مواكِبةً للاستثمارات الفرنسية الباذخة بذات المنطقة، أو كإماطة اللثام عن وثائق تاريخية أخرى من شأنها أن تفتح ملف استعادة صحرائنا الشرقية على مصراعيه مغاربياً وعربياً ودولياً بسرعة أنكى وأشدّ وطأة على ذلك الجار البائس واليائس!!
ومَن يدري ما سيأتي به الغد إلينا في بحر هذه العلاقات المتجددة؟.. وإن الغدَ لناظِرُه قريب!!!