في عالم اليوم، لا يمكن التسليم بأن المكان الطبيعي للجيش هو "الثكنات" أو الجبهات المشتعلة. بل إن التحليل المتأني لواقع الجيوش في كل الديمقراطيات القوية يفضي إلى حقيقة أن الجيش منخرط- وهذا ما ينبغي له- بكل الوسائل في مهام أمنية واجتماعية وإنسانية واقتصادية وعلمية ودولية. إنه جهاز وطني متحرك في كل الواجهات، وسلطة خفية داعمة للديمقراطية وللاستقرار، وضامنة للأمن ومساهمة في التنمية، وتتمتع بجاهزية كبيرة للتدخل أثناء اللحظات الصعبة، بما فيها الكوارث الطبيعية «زلازل، فيضانات، حرائق، أوبئة، إلخ...».
إلى هذا الأفق، إذن، تنتمي القوات المسلحة الملكية التي من المفيد أن نقول إنها الدرع الواقي والحصري للمغاربة من كل التهديدات الخارجية، خاصة أن المغرب مبتلى بـ «جوار صعب وأحمق»، وبدولة جارة تعمل دون هوادة، وبكل ما أوتيت من أحقاد، من أجل إلحاق الخسارة به. ومن هذا المنطلق، فإن التطورات الهادئة التي عرفتها المؤسسة العسكرية المغربية، خلال الـ 25 سنة من حكم الملك محمد السادس، القائد الأعلى للجيش ورئيس أركان الحرب العامة، تتجه نحو الإيمان بأن «التسلح الجائع» رؤية قاصرة لمهام الجيش في العصر الحديث، مما حتم تجديد الرؤية وإخراجها من حيز القدرة على التدمير إلى حيز المساهمة الفعالة والوطنية في البناء.
لقد اقتنع المغرب، أيا كان مستوى التوتر مع جواره والرهانات المطروحة عليه في هذا الجوار الطائش، أن القوات المسلحة الملكية ليست تدبيرا مؤقتا ما دام الأفق الدائم هو تعزيز الموقع في الخريطة العسكرية العالمية؛ ولعل هذا ما يفسر، ليس فقط موقع الجيش المغربي القاري كقوة إقليمية فاعلة، بل تنويع وترسيخ شراكاته العسكرية المتنوعة مع الحلف الأطلسي ومع البانتاغون، ومع العديد من دول الاتحاد الأوروبي، ومع مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن الأمم المتحدة.. إلخ.
كما يفسر انخراطه الفعلي في تملك التكنولوجيا العسكرية، بأبعادها التقنية والهندسية والعلمية. بل يفسر، أيضا، ديناميكية التجديد على مستوى الموارد البشرية والكفاءات.
لقد حرص الملك محمد السادس، القائد الأعلى للجيش، على تطوير المنظومة العسكرية على جميع الأصعدة والمستويات، وذلك من خلال جملة من المبادرات الحيوية والإجراءات الدقيقة التي بوسعها أن تلحق الجيش المغربي بنادي «الجيوش المهابة»، خاصة أن صناعة الدفاع تتحقق، في عالم اليوم، بالرهان على التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي وتوسيع استخدامها والتحكم فيها، وليس فقط على التسلح بالدبابات والصواريخ والراجمات وحاملات الطائرات والبوارج الحربية.
إن هذا التطور السريع والحاسم في الاستراتيجيات العسكرية هو ما ساهم في تغيير طريقة تفكير الخبراء العسكريين المغاربة، مما أفضى إلى إحداث رجة هادئة في الجهاز، والانتقال به من جهاز أبكم بأسوار غير قابلة للاختراق إلى قوة فاعلة في البناء، وذلك من خلال مجموعة من التدابير:
أولا: تجديد النخب العسكرية، وإقرار نظام عادل للترقيات ينبني على الكفاءة والمهنية، الأمر الذي يفسر التغييرات التي عرفها الهيكل التنظيمي للجيش خلال السنوات الأخيرة، من خلال ترقية العديد من الضباط على أساس مسارهم المهني وكفاءتهم في مجال تخصصهم العسكري، وأيضا من خلال تكوين عناصر فنية قادرة على التعامل مع أحدث التقنيات والمعدات العسكرية. هذا دون أن ننسى العودة إلى العمل بنظام التجنيد الإجباري، من خلال تزويد المستفيدين من الخدمة بمهارات مهنية، وفقا لميولهم وتطلعاتهم، إلى جانب التداريب العسكرية والرياضية، والتربية على خصال الالتزام والتطوع والتضحية والوطنية والمواطنة الصالحة، التي تشكل القيم الأساسية للقوات المسلحة الملكية.
ثانيا: تطوير برامج البحث العلمي، والتركيز على أبحاث الدفاع من أجل تطوير الصناعات العسكرية، وذلك من خلال تأسيس المركز الملكي للدراسات وأبحاث الدفاع بأمر من الملك (ماي 2023)؛ وهو المركز الذي يهدف إلى تعزيز الدراسات الإستراتيجية، ومواكبة تحديات المنظومات العسكرية، وتطوير القدرات الدفاعية والهجومية.
ثالثا: تحديث الترسانة العسكرية من الأسلحة المتطورة، التي تلبي الاحتياجات والمتطلبات والمهام الجديدة، وتواكب التطورات التقنية والتكنولوجية المتسارعة التي تعيشها سوق الأسلحة.
رابعا: تنويع موردي السلاح “الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، الصين، البرازيل، الباكستان، روسيا، الهند، تركيا، رومانيا”، لتحقيق التوازن بين مزايا الأسلحة، وبين تكلفتها وتناسبها مع الخصوصيات الجغرافية ومع الإستراتيجيات والخطط الدفاعية التي يتبناها المغرب. ويهدف هذا التنويع إلى الحفاظ على نوع من الاستقلالية.
خامسا: إنشاء صناعة عسكرية محلية خاصة بتصنيع بعض الأسلحة، من خلال إبرام العديد من الاتفاقيات لشراء براءات اختراع من بعض المركبات الصناعية التابعة لدول أوروبية وروسيا والصين والهند، فضلا عن بناء منظومة قانونية تواكب هذا المنحى (قانون صناعة الأسلحة رقم 10.20)، إضافة إلى إنشاء منطقتين للتسريع الصناعي للدفاع، مما جعل التصنيع العسكري المغربي يشهد تطورات متسارعة تُوِّجت بإنتاج نماذج أولية لطائرات بدون طيار.
سادسا: تحديث البنى التحتية بالثكنات ومسارح العمليات (حتى المتنقلة منها)، حتى تتمكن القوات المسلحة في قواعدها الرئيسية من تأمين كافة احتياجاتها اللوجستيكية، من حيث الإمداد والتجهيز .
سابعا: إنشاء مواقع عديدة لصيانة المعدات العسكرية، مما ساهم في خفض كلفة الصيانة، علما أن الجيش المغربي راكم تجربة واسعة في ميدان صيانة الطائرات والمعدات العسكرية ومعدات الحرب الإلكترونية، الأمر الذي ساهم في تقليص فاتورة استيراد الأسلحة المكلفة.
ثامنا: التوجه نحو تقوية الاقتصاد العسكري، من خلال تشجيع تأسيس مقاولات رائدة في الصناعات العسكرية وجلب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز الشركات العالمية للاستثمار في هذا المجال، مما سيؤدي إلى خلق فرص شغل جديدة.
تاسعا: المشاركة في مختلف المناورات العسكرية الدولية والإقليمية لتطوير قدرات الجنود المغاربة، والاحتكاك بتجارب جيوش أخرى واختبار قدراته القيادية والعملياتية. إذ تعتبر مناورات الأسد الإفريقي التي يحتضنها المغرب بانتظام، وتشارك فيها العديد من الدول، من بين أهم وأضخم المناورات التي تحاكي الحرب برا وجوا وبحرا.
عاشرا: الحرص على إشراك عناصر القوات المسلحة في الجهود الدولية لحفظ السلام، من خلال المشاركة في البعثات الأممية ذات الصلة بالعديد من بؤر التور الدولية.
لقد استطاعت القوات المسلحة أن تثبت، خلال السنوات الأربع الأخيرة، باختياراتها الاستراتيجية والفنية والبشرية، أن الدفاع فن، وليس فقط برهنة رياضية لا تخضع للتحول، إذ أدركت مبكرا أن "جبهة العمل الدفاعي" فضاء متصاعد المخاطر، أمنيا وبيئيا، وأنه فضاء مفرط الحساسية في سياق دولي وإقليمي متقلب “ليبيا، مالي، تونس، النيجر، بوركينافاصو، إلخ...”، كما أنه فضاء حاضن للجماعات الإرهابية والانفصاليين والمرتزقة وتجار السلاح ومهربي البشر وتجار المخدرات. ولهذا، فإن تطوير الجيش ومواكبة التطورات العسكرية الجديدة وتأهيل العنصر البشري وامتلاك التكنولوجيا، هي عناصر الوصفة الناجعة لهذا المغرب الآمن الذي تتربص به قوى الشر والانفصال والإجرام العابر للحدود.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"