عبد السلام بنعبد العالي: نقد "الحياة اليومية" عند هنري لوفيفر.. بذور التمرّد الكامن

عبد السلام بنعبد العالي: نقد "الحياة اليومية" عند هنري لوفيفر.. بذور التمرّد الكامن عبد السلام بنعبد العالي

أول من جعله في طليعة الخطاب النظري في فرنسا

يشتق النعت "يومي" الذي تعبّر عنه اللغة اللاتينية بـ quotidianus، من quotidie الذي يعني "كل يوم". في الأصل، كان هذا المصطلح يستخدم في سياق ديني. فـ"القوت اليومي" pain quotidien يشير إلى الأطعمة الدنيوية و"الخبز اليومي"، في مقابل "الخبز المقدس". ستتسلل هذه الصفة إلى الحياة الخاصة للمتحدثين من خلال الطقوس المتداولة في الصلاة، مع الاحتفاظ بالدلالة السلبية لكلمة quotidianus اللاتينية، التي تحمل معنى "العادي والمألوف".

في مطلع القرن السابع عشر، سيفرض المعنى المجازي نفسه، ليشير إلى "ما يُفعل كل يوم، وما يُواجَه باستمرار". سوف يعزّز هذا الانعطاف الدلالي تدريجيا القيمة السلبية للكلمة: فمنذ عام 1836 سترتبط الكلمة بالرتابة أو التفاهة، وبحلول نهاية القرن، ستشير ببساطة إلى الملل: فهذا جول لافورغ يشتكي متذمرا سنة 1885: "آه! ما أشد يومية الحياة قساوة...". وهكذا ستعتبر عبارة "الحياة اليومية" (1834) من المصطلحات الأدبية والتعليمية، وستكون مشبعة بما يسمى "داء القرن"، فهي تدل على "صفة ما هو يومي، يتكرر كل يوم، أي ما هو مألوف وعادي ورتيب".

ظهور المفهوم وتطوره

على غرار "القوت اليومي" ستظهر عبارة "الصحيفة اليومية"، التي أصبحت متداولة ابتداء من عشرينات القرن التاسع عشر، كي تختصر، عقدا في ما بعد، في لفظ "اليومية Le quotidian". وابتداء من ثلاثينات القرن التاسع عشر ستتخلص الكلمة من أي شحنة معيارية لتدل فقط على "ما له علاقة بسائر الأيام".في فرنسا، وضع مؤرخو مدرسة الحوليات، منذ ثلاثينات القرن الماضي، أسس دراسة علمية وإحصائية للحياة اليومية. وبعد جيل من ذلك، سيضع فرنان بروديل في قلب مشروعه للتاريخ الشامل دراسة "بنى الحياة اليومية". لكن أول من جعل الحياة اليومية في طليعة الخطاب النظري في فرنسا كان، بلا شك، الفيلسوف الماركسي هنري لوفيفر، الذي نشر سنة 1933 مع نوربرت غوتيرمان "ملاحظات من أجل نقد الحياة اليومية"، ثم أطلق في عام 1947 "نقد الحياة اليومية"، وهو كتاب "بلا بداية ولا نهاية" استمر حتى عام 1981.

 

صحيح أنه، ومنذ أواخر خمسينات القرن الماضي، سيدعو رفقاء دو بور، صاحب "مجتمع الفرجة" إلى "ممارسة جديدة للحياة اليومية" تعيد النظر في بعض الثنائيات الماركسية، كالقيمة التبادلية والقيمة الاستعمالية، لكن عملهم النظري في هذا المجال كان يندرج، بشكل عام، ضمن التيار الذي دشّنه الماركسي لوفيفر.

يروي صاحب كتاب "نقد الحياة اليومية" (1947)، في محادثاته مع كلود غلايمان أن مفهوم "الحياة اليومية" تجسّد له في يوم من الأيام عندما دخلت زوجته الغرفة التي كان يعمل فيها، وصرخت وهي تريه علبة من المنظفات: "هذا منتج ممتاز". هذه الحادثة البسيطة من الحياة الخاصة ظهرت فورا لدى لوفيفر كظاهرة اجتماعية معقدة، تمثل الاغتراب المزدوج الذي تتسبب به حالة ربة المنزل من جهة، والخطاب الإعلاني من جهة أخرى.

 

تناقضات دائمة التجدّد

ظل لوفيفر طوال مسيرته مفكرا ديالكتيكيا. فعدم قدرة الحياة اليومية على البقاء على حالها، وظهورها في شكل تناقضات دائمة التجدّد، هو ما يفسر الطابع "اللامتناهي" لكتابه "نقد الحياة اليومية"، وهو عمل يبدو نشره متقطعا ومستمرا في آن واحد. المقدمة، التي ظهرت عام 1947، تستلهم فكرة الاستلاب عند ماركس، وتدعو إلى تحقيق "الإنسان الكامل" من خلال زيادة المعرفة والوعي بالحياة اليومية. في عام 1958، اغتنت هذه الطبعة الأولى بمقدمة طويلة موجهة ضد الماركسيين الأرثوذكسيين، الذين شككوا في أن تكون لـ"مفهوم الحياة اليومية" قيمة نقدية، أو أن يمكنه أن يحل محلّ العوامل الأيديولوجية والاقتصادية في التفسير التاريخي، وأن يصبح بديلا منها.

يعترف لوفيفر بالصعوبة التجريبية في مراقبة الحياة اليومية، إذ يرى أنها لا توجد لا في العمل، ولا في الترفيه، ولا حتى في الحياة الأسرية، بل هي كامنة في مجموع التفاعلات بين هذه المجالات. ومع ذلك، فإن بعض الفئات الاجتماعية، في نظره، تشعر بقيود الحياة اليومية أكثر من غيرها: فالنساء والعمال يدركون أوضاعهم المعيشية أقل من البورجوازي، الذي يفصل بسهولة في حياته الخاصة بين الروتين والعمل، بين الرتابة والتجدّد. في المجتمعات الصناعية بعد الحرب، ستكون فكرة الحياة اليومية سلبية بشكل شبه حتمي، وستظل مرادفة للرتابة التي يعيشها العامل الحضري في العمل المتسلسل كما وصفه فيلم تشارلي شابلن: "الأزمنة الحديثة".

على هذا النحو، فإن هذا المفهوم المثقل بالإيحاءات، سيكشف في وجهه الدلالي شيئا متمردا، إذ تتداخل فيه زمنيتان، إحداهما مشتقة من تراكم الأيام، والأخرى من تكرارها. أو، لنقل بتعبير هنري لوفيفر نفسه، إنه مفهوم "يلتقي فيه الزمن الخطّي بالزمن الدوري". أو، كما سيقول بلانشو في ما بعد، متحدثا عن كتاب لوفيفر: "إن اليومي مألوف، لكنه لا ينكشف إلا في ما هو مثير للتعجّب"، فإن كان من الأمور التافهة، " فهو ربما مجال الدلالات جميعها". وعلى رغم ذلك، فإن "العادي في كل يوم ليس كذلك مقارنة مع شيء استثنائي؛ فهو ليس "اللحظة العدمية" التي تنتظر "اللحظة الرائعة" لكي تعطيه معنى أو تزيله أو توقفه".

نصّ اجتماعي

يضع لوفيفر آماله في الشارع، أكثر مما يعلقها على الكتب. فالشارع لا يمكن اختزاله إلى مكان للسيطرة الإيديولوجية والإغراء الإعلاني. بل هو يعرض "نصا اجتماعيا عادة ما يكون جيدا، كثيفا وقابلا للقراءة"، ولكنه يقدم، في الوقت نفسه، "مسرحا عفويا" مليئا بـ"الشعر الإبداعي"، حيث تتحول الحياة اليومية إلى احتفال. هذا الهدف النهائي للحياة اليومية—تعليقها كواقع—سيتم البحث عنه بنشاط من قِبَل السورياليين، الذين، مع أنهم استلهموا أطروحات لوفيفر، سيبتعدون عن كل نزعة عمالية ليعيدوا الاتصال مع روح اللعب والأخلاق للطليعة التاريخية. من الدادائية إلى الحرفية مرورا بالسوريالية، يظهر كسر الحياة اليومية من خلال "الاحتفال" كنوع من النقد الفعلي للإيديولوجيات.

بعد أن تخلى لوفيفر، إلى حدّ ما، عن التوجّه الإنسانوي لحججه الأولى، طوّر في كتابه "أسسٌ لعلم اجتماع الحياة اليومية" (1962) قيما أخلاقية للحياة اليومية. ولكن مع إدماجه لأدوات السوسيولوجيا الجدلية مع تلك المستمدة من علم التحكم الآلي. وبعد خمس سنوات، استعاد لوفيفر جمهوره بنشره "الحياة اليومية في العالم الحديث"، وبالتوازي مع تأملاته حول الاحتفالات الحضرية، طوّر هذا المقال أطروحات حول "مجتمع الاستهلاك البيروقراطي الموجّه"، وهو نموذج ينطبق على الحالة السوفياتية كما على الحالة الفرنسية. أضاف إلى ذلك مقالا موجزا بعنوان "الحياة اليومية والعيش اليومي"، كتبه بطلب من موسوعة "إنسيكلوبيديا يونيفيرساليس"، وأخيرا في عام 1981، نشر المجلد الأخير من "نقد الحياة اليومية"، بعنوان "من الحداثة إلى الحداثوية"، الذي يفحص إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية في زمن تهيمن فيه الرؤية التقنية للعالم على التجربة المعيشية. إن الحجم الكبير لهذه النصوص — أكثر من ألف صفحة إجمالا — يظهر أن المفهوم بالنسبة لالى لوفيفر لم يكن مجرد افتراض نظري ولا حتى معطى تجريبي.

هل أكدت أحداث مايو/ أيار 1968 أطروحات لوفيفر حول إمكان حدوث ثورة في الحياة اليومية ومن خلالها؟ في كتابه: "الانبثاق: من نانتير إلى القمة"، الذي نُشر في نهاية عام 1968، يفحص لوفيفر الشروط المؤسسية—جهاز الدولة الضخم، نقص الهيئات الوسيطة—والاجتماعية—انسداد الآفاق أمام الشباب، انفصال المواطن عن الحياة السياسية—التي أدت في فرنسا إلى "تعليق" الحياة اليومية خلال الأيام التاريخية لشهر مايو/أيار. كانت السلبية الخلّاقة لحركة مايو/أيار تهدف إلى تدمير الثنائيات المؤسِّسة للنظام الاجتماعي، "بين النشاط والسلبية، بين الحياة الخاصة والحياة الاجتماعية، وبين الحياة اليومية والحياة السياسية". وعندما أُلغيت الحياة اليومية كمكان لـ"الفصل"، تم الترويج لها كمجال للتحوّل الدائم.

 

"عن مجلة "المجلة