لغشاوي: منع الجماهير من التنقل إلى الملاعب يحمل تداعيات وخيمة على ميزانية الفرق وعلى تنافسية البطولة 

لغشاوي: منع الجماهير من التنقل إلى الملاعب يحمل تداعيات وخيمة على ميزانية الفرق وعلى تنافسية البطولة  حميد لغشاوي؛ باحث في تحليل الخطاب 
يرى حميد لغشاوي؛ باحث في تحليل الخطاب أن منع  الجماهير من التنقل وولوج الملاعب من شأنه أن يؤثر على ميزانية الفرق، ويدخلها في دوامة كبيرة من المشاكل، لتغذوا البطولة فاقدة للحماس والتنافسية، علما أن الجماهير  هي التي تشد لحمة الفرق الرياضية  وتدعمها في الأزمات؛ لكن من الممكن اللجوء إليه مؤقتا حين  تكون وراءه أسباب منطقية تهم الأمن العام ؛ مثل تأمين الجماهير المتنقلة، وتجاوز كل ما يمكن أن يسيء إلى سمعة المشهد الرياضي المغربي والجماهير العاشقة للفرجة.

بعض السلطات تتخوف من حضور الجماهير لمشاهدة مباريات كرة القدم؛ اذا كان الأمر كذلك؛ لماذا تصرف أموالا طائلة لبناء الملاعب وتمويل الفرق الرياضية؟ أليس من الأجدر - كما يقول البعض-  تخصيصها لقطاعات أخرى هي أولى بها مثل التعليم والصحة أو تخصيصها لبعض المناطق التي تعاني من الخصاص في بنيتها؟
بداية لابد من التأكيد أن حدث التخوف من حضور الجماهير  ليس سببا منطقيا، فالمغرب راكم خبرة مهمة في تأمين التظاهرات الرياضية الكبرى على المستوى العالمي، ربما تكون ضرورة قاهرة لا نعرفها مادام لا وجود لبلاغ رسمي من السلطات المحلية. وهو ما يفتح المجال لقراءات مختلفة واحتمالات متعددة ومفتوحة منها: تجاوز بعض الاحتمالات بانفلات أمني، قد يخلف شغبا وجرحى وتسيل الدماء، ويتحول الموضوع إلى مادة دسمة لوسائل الإعلام المحلية والعالمية التي ينتظر المشهد الرياضي العالمي، والخصوم، مشاهدتها، في مرحلة زمنية حساسة، خاصة أن المغرب مقبل على تنظيم تظاهرات قارية وعالمية، لاسيما كأس أمم أفريقيا لكرة القدم (2025) وكأس العالم بشكل مشترك مع إسبانيا والبرتغال(2030)، ومن شأن ذلك أن يسيء إلى المغرب ومؤسساته. الظرفية حساسة جدًّا وتستدعي المزيد من اليقظة والحذر، والبحث عن سبل كفيلة بتعزيز التعاون وتعزيز القدرات في هذا المجال، لضمان النظام العام خلال هذه التظاهرات الرياضية المحلية. 
 
ومن حيث المبدأ الرياضي، منع  الجماهير من التنقل وولوج الملاعب، وإن كان جزئياً، ليس حلا، وليس مجديا،  لأن من شأن ذلك أن يؤثر على ميزانية الفرق، ويدخلها في دوامة كبيرة من المشاكل، وتغذوا البطولة فاقدة للحماس والتنافسية، ويحرمها من التشجيع والدعم. إن الجماهير  هي التي تشد لحمة الفرق الرياضية  وتدعمها في الأزمات.  ولكنه ممكن ومؤقت حين  تكون وراءه أسباب منطقية تهم الأمن العام، يتعلق الأمر بتأمين الجماهير المتنقلة، وتجاوز كل ما يمكن أن يسيء إلى سمعة المشهد الرياضي المغربي والجماهير العاشقة للفرجة. غير ذلك سيكون له تداعيات تخص العدالة الرياضية والتنافس الشريف.
 
بالنسبة للشق الثاني من سؤالكم، هناك حقيقة يجب الاعتراف بها، مهما تعددت القراءات والتأويلات، وهي أن التظاهرات الرياضية، اليوم، ليست ترفاً يراد به تبذير المال العام، بل إنّها جزء من حياة الشعوب وتعكس هويتها وتاريخها وحضارتها، كما أنّها تزيد جرعة من الاعتزاز بالوطن، وإثارة حمية الشعور بالهوية، والرفع من شأنها المحلي والدولي، في عالم متقلّب وفاقد بوصلته الهوياتية، هذه حقيقة أتبتها المنتخب المغربي في كأس العام (2022) بقطر، كما إنها ترفع سقف الطموحات الاقتصادية عن طريق الاستثمار  وتحديث البنية التحتية إذا أحسنا التدبير، المسألة، من هذه الناحية، تكتسي طابعاً اقتصادياً واستراتيجياً إذا أخذناها على محمل الجد، وربطنا المسؤولية بالمحاسبة. في المقابل لا يمكن أن نضرب عرض حائط القطاعات الأخرى (الصحة، التعليم، الشغل) حتى لا تقع الجماهير في سكيزوفرينة التحولات المجتمعية، وهي تستشعر الظلم وتقع ضحية "تيفوهات المظلومية " (الفقر  المادي والمعنوي)، وتبني سجنها في الملاعب، لا يمكن لأي جراحة أن تكون فعالة وجسد المريض معطوب، وأعني بذلك المجتمع.
 
ألا يستحضر المسؤولون أهمية مشاهدة المباريات في التخفيف من حدة التوترات النفسية والاجتماعية وأهمية الرواج الذي تحققه المباريات: رواج وسائل النقل، مقاهي، مطاعم، فنادق، حتى وإن كانت تحمل بعض الانفلاتات؟ 
صحيح أن التظاهرات الرياضية تخفّف من حدة التوترات الاجتماعية، وتهذّب النفوس، ف"العقل السليم في الجسم السليم" كما يقول المثل الروماني، وتحمي الشباب من الجريمة والفساد، وتحثّ على الثقة في النفس واحترام الخصم، وتعزز روح المواطنة والولاء، إنّها جزء من التربية التي تبرز قيم الشعوب وحضاراتها؛ لكن لابد أن نأخذ بعين الاعتبار التحولات المجتمعية الجديدة، التي أصبح فيه المشهد السياسي غير فاعل والتنظيم المدني غير مؤثر، فتحولت "الإلترات" إلى "حزب كروي"؛ لقد حلت محل الحزب والنقابة، والنخبة المثقفة المنفصلة وجدانيا وثقافيا، وهو ما دفع الجماهير إلى خوض معارك وهمية ضد الخصم، داخل الملاعب وخارجه (الشوارع، ومنصات التواصل الافتراضية)، سرعان ما تتحول إلى مطالب اجتماعية، تدين القهر  والفقر، (أغنية "في بلادي ظلموني" على سبيل التمثيل)، والرغبة في الانتصار الاجتماعي بعد الهزيمة في الملاعب الرياضية.  وتتحول هذه المطالب إلى عامل تهييج وقتي (انفجار عاطفة ما: أحاسيس، ميول، رغبات)، وتصير الملاعب حاضنة له. ويزيدها شعلة  بعض المنابر الإعلامية المحسوبة على المجال الرياضي التي تؤجج نار الفتنة والفرقة.
 
إن الجماهير الكروية، اليوم، تثير الكثير من الإشكالات ولعل أبرزها الجمع بين الفرجة والتفاعل الاجتماعي، وفي واقع سياسي مأزوم. التظاهرات الرياضية أصبحت تنتج فرجة مقلوبة، إذا صح التعبير؛ ظاهرها متعة وتنفيس عن الذات، وباطنها احتجاج وزيغ، يتجلى ذلك بشكل أوضح في الأشكال التعبيرية المعروفة باسم "التيفوهات" (الأهازيج، والشعارات، والصور، والرموز...إلخ) التي أصبحت تحمل بعداً اجتماعياً لمفهوم "الجمهور" (لفظة الجمهور تاريخيا، كانت تعني جماعة من الشعب  تكون موضع  توجس وتخوف وتهديد للنخبة، وعداء من يدور في فلكها)، ويمكن أن يتحول ذلك إلى تحريض سياسي، وتمرد اجتماعي. 

ماذا عن الآثار السيكولوجية لمشاهدة مباريات كرة القدم في الملاعب ؟
لقد أصبحت الجماهير الرياضية محمّلة بانفعالات سوسيوـ اقتصادية، وتحوّل الملعب إلى فضاء حر للتعبير عنها  (الحرية، والكرامة، ومقاومة الحكرة، والممانعة، والهوية الرياضية والعربية (رجاوي فلسطيني، أغنية كورفا التي تعبر عن الحرية...). وفي هذه الحال يمكن اختراقها  بإيديولوجيات قد تكون خبيثة تستهدف المؤسسات (الحكومة، الشرطة، الإعلام، تصفية حسابات شخصية أو سياسية...) ولا علاقة لها بالشأن العام الرياضي، وتسهم وسائل التواصل الجديدة في انتشارها، محليا ودوليا. 
 
كما أن المبارايات تنقل ضغطا وقلقا وتوتر ا للجماهير؛ فرح زائد وحزن زائد، وهو ما قد يؤدي إلى انهيار عصبي. والدماغ، في هذه الحال، يشتغل بطريقة يتخللها التناوب بين أحاسيس متقلبة، تقذف به في بئر القلق الذي يخرج الوحش المسكون فيه، والمكبوت الاجتماعي، فتتضخم الرغبة العاطفية الخارجة عن وحدة الضبط، ومنفلتة من العقد الاجتماعي، بل تستخف به. 
 
هل المقاربة الأمنية وحدها كافية للحد من شغب الجماهير أم لابد من تأطير الجمعيات والترات والإعلام؟
المقاربة الأمنية ضرورة وملحة، تفرضها شروط سلامة  التنقل الجماعي للجماهير الرياضية، والحد من الشغب داخل الملاعب وخارجها، وهي تستدعي إجراءات استيباقية، واحتياطات لازمة؛ تأخذ بعين الاعتبار  أمن الأفراد والأمن العمومي والممتلكات الخاصة، وحتى لا تتحول المباراة الرياضية إلى معركة بين الجماهير الغاضبة، خارج الملعب، تفرغ غضبها وتنفس عن هزيمتها بأحداث شغب دامية. 
 
في المقابل يستدعي الأمر، بضرورة وإلحاح كبيرين، التفكير في تأطير الجمعيات والإلترات، وكل التجمّعات الحاضنة للجماهير  الرياضية، وتشجيعها ماديا ومعنويا وإعلاميا، لابد من مضاعفة الجهود داخل "الالترات" ومساعدتها على نحو منطقي وحيادي، وذلك بفتح نوافذ للتوريد المادي والتكوين المعرفي، وتوفير فضاءات للتوعية والتأطير، والتشجيع على بناء صداقات مع "إلترات" عالمية، لتعزيز التجربة وإغنائها، وتعيين سفراء للفرق، وكل ما من شأنه أن يجعل التظاهرات الرياضية فضاء للمتعة والفرجة والحوار بوعي رياضي، بعيدا عن التهميش والتحزب السياسي والفساد، والانتقاد الإعلامي الفوقي اللاذع الذي تتطاير فيه الشتائم والاتهامات، والشخصنة، وتمرير خطابات ملغومة لا تربطها صلة بالروح الرياضية.  لابد من التأكيد أن ضعف تأطير القاعدة الجماهيرية يهيئ أرضية للعنف، وللإديولوجيا كعلّة للتحكم في "المستضعفين" الذين يتلظى صوتهم بالقهر، المغلوبين في الملعب وفي المجتمع، وعلّة للتحزب السياسي والتجارة والاستغناء وتأجيج الفتنة يكون ضحيتها المجتمع.