بعد مرور 25 سنة على محاضرته باليوسفية.. الفقيد المختار بنعبدلاوي وإشكالية "مفهوم المجتمع المدني" الحلقة (5)

بعد مرور 25 سنة على محاضرته باليوسفية.. الفقيد المختار بنعبدلاوي وإشكالية "مفهوم المجتمع المدني" الحلقة (5) الفقيد المختار بنعبدلاوي

في مرحلة التأسيس حين كان الأستاذ عبد الكبير حدان مندوبا لفرع الشعلة باليوسفية، كان للراحل الأستاذ الجامعي الدكتور المختار العبدلاوي لقاء فكريا تحت سقف فرع جمعية الشعلة للتربية والثقافة بمدينة اليوسفية، حيث ألقى محاضرة موسومة بـ "مفهوم المواطنة وإشكالية المجتمع المدني" بدار الشباب الأمل / اليوسفية بتاريخ 25 دجنبر 1999. وبعد مرور 25 سنة على هذا الحدث الفكري المتميز، وتكريما ووفاء لروحه وعطاءاته الفكرية تتقاسم جريدة "أنفاس بريس" نص المحاضرة التي تابعها جمهور غفير حينئذ من نساء ورجال التعليم، إلى جانب شباب المدينة وثلة من الإعلاميين والمبدعين والمثقفين والفنانين.

ـ أبواب الحداثة التي أهلت أوروبا لتشهد تبلور مفاهيم فلسفية واجتماعية على أرض الواقع:

3 ـ الباب الثالث : الثورة السياسية

يستطرد ضيف جمعية الشعلة للتربية والثقافة بمدينة اليوسفية الفقيد الأستاذ المختار بنعبدلاوي في توضيح أبواب الحداثة الثلاث التي أهلت أوروبا لتشهد تبلور مفاهيم فلسفية واجتماعية على أرض الواقع، بعد أن وقف بالتحليل والتفسير عند الثورة الدينية والثورة الصناعية، ليمر إلى البوابة الثالثة والأخيرة وهي الثورة السياسية، على اعتبار أنها شكلت مدخلا للحداثة وأدت إلى ولادة المجتمع المدني كما عرفناه في أوروبا.

واستشهد المختار بنعبدلاوي في هذا السياق بالثورة الفرنسية التي طرحت قضايا كبرى لأول مرة تتعلق بالحرية باعتبارها حقا طبيعيا للإنسان، وطرحت كذلك قضية العدالة الاجتماعية لما تتضمنه من مساواة مطلقة بين جميع المواطنات والمواطنين تتجاوز الدين واللغة والعرق، وتقوم على أساس أن جميع الناس سواسية.

ووقف المحاضر عند مسألة مهمة تتعلق بمفهوم الإخاء الذي طرحته أيضا الثورة السياسية، وهو مقولة يكون الهدف منها أساسا طرح نظرة إنسانية للعلاقة بين البشر تتجاوز الإختلافات الشكلية والأحكام والأفكار المسبقة إلى ربط الجميع برباط مصير مشترك تنبني فيه العلاقات ليس على الصراع بل على التكامل.

ولم يفت ضيف فرع جمعية الشعلة أن يشير إلى أن الثورة الفرنسية كانت دموية وأدت إلى عدد من الإعدامات، وطرحت هذه الأفكار المتقدمة في وقت لا يسمح بذلك، مما خلق شروط انبعاث القوى المحافظة لاحقا في فرنسا وعودتها إلى الحكم، لكنه بمقابل كل ذلك ـ يوضح المحاضر ـ فقد بصمت الثورة على إيجابية القيم التي تبنتها وهي قيم لم تظل حبيسة فرنسا.

في نفس السياق استشهد المفكر بنعبدلاوي بغزو نابليون لألمانيا، حيث لم يقم بعميلة الغزو فقط بل حول أفكار جديدة إليها وكذلك الأمر بالنسبة إلى غزوه لروسيا وإسبانيا، مما خلق حلفاء فكريين وإيديولوجيين داخل هذه الدول التي غزاها، ونفس الأمر حدث في مصر، بحكم أن غزوه كان له تأثير على النهضة العربية بإدخاله المطبعة إلى مصر، والتي ستمكن من قراءة الكتابة الهيروغليفية في بدايتها الأولى ومن التعريف بتاريخ مصر، وبوضع شروط النهضة الفكرية التي عرفتها مصر بعد حملة نابليون.

وأكد المحاضر على أن الثورة الفرنسية كانت ثورة أميمة لا فرنسية فقط، لأنها في مرجعيتها كانت كذلك، فالأفكار التي نادت بها تعتبر أفكارا من وحي الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، لأن أفكار ابن رشد مثلا وبعد ترجمتها في القرن الخامس عشر، والسادس عشر والسابع عشر، لعبت دورا حاسما في إعطاء تلك النكهة الإنسانية والأممية والكونية للفكر الأوروبي الذي كان لايزال ضيقا ـ حسب تعبيره ـ

وجدد التأكيد على أن ما قدمه لنا الأوروبيون لا ينبغي أن ننظر إليه على أنه بضاعة مستوردة، إنه بصيغة من الصيغ بضاعتنا ردت إلينا، على اعتبار أن الحضارة العربية في الأندلس، وفي جنوب إيطاليا، وفي صقلية هي التي أغنت الفكر الأوروبي بأهم القضايا التي سوف تبرز في المراحل الموالية داخل هذا الفكر.

هكذا يمكن أن نقول دون تردد، أن أوروبا عرفت ثلاث ثورات أو إصلاحات كبرى، موسومة بعناوين بارزة، وهي الإصلاح الديني الذي أعاد الكنيسة إلى حجمها الحقيقي، وفك عقال العقل والفكر، وحرض على الاجتهاد والخلق والابتكار، بل أن الإصلاح الديني أعاد للإنسان الثقة. ثم الثورة الصناعية التي وضعت قاعدة الإنتاج المادي للرفاهية وساهمت في ظهور طبقات جديدة، وساهمت أيضا في تراكم جديد للثورة، فضلا عن الثورة السياسية التي جاءت بأفكار جديدة ردت الإعتبار للإنسان ووضعته في مركز الكون.

إن النتيجة التي استخلصها المفكر بنعبدلاوي من خلال محاضرته القيمة هي أن المداخل الأوروبية الثلاث إلى الحداثة قد جاءت منسجمة مع مسلسل تطور المجتمع الأوروبي.

يتبع