حميد لغشاوي: الجنسانية الرقمية

حميد لغشاوي: الجنسانية الرقمية حميد لغشاوي
لا مبالغة في القول إن الثورة التقنية غيرت الظروف الاجتماعية وتشكلاتها المفاهيمية، وخاصة لدى المراهقين الشباب، هذه الثورة الاجتماعية التي تنقلها وسائط التواصل أشبه ما تكون بالحرب ضد الواقع الموضوعي الموروث والمعاش، بمختلف أنساقه التي لم تعد تستجيب لتطلعات العصر المتجدد والسريع. والمعارك، اليوم، تجاوزت الشرعية الاجتماعية وراهنت على مثالياتٍ تُضَخِّم من أفاق الأفراد وتزيد جرعة من الغرور، خاصة لدى العقول الضعيفة، مما يجعلها منبوذة ولا شيء مُهمّ في حياتها حين تعجز عن تحقيق هذه الأفاق. ومن شأن ذلك أن يُسهم في اتفاق جماعي يفتقد إلى حدود بنائية واضحة، أو نكبة اجتماعية خارجية محتدمة لا تتأسس على الصدفة أو المحبة وإنّما تحركها مصلحة ملغومة وهي "الخلاص" (الهجرة غير الشرعية على أبواب سبتة مثلا ). إنّه حلم نحو تحقيق أفاق وردية تجود بها منصات التواصل الافتراضية دون أن يكون مصاحب ذلك بذل جهود.

وإذا تجاوزنا المقاربات القديمة والمخرومة (والإيديولوجيات المنهكة)، نحو مقاربة مثمرة تأخذ بعين الاعتبار الوجود الافتراضي وما يفرضه من تحديات، يمكن القول إن التقنية بنت فاعلاً جديداً بمواصفات أثيرية، تمكّنه من التعاطي مع واقعه بأدوات ومفاهيم جديدة، منفلتة من النخبة الوصية على الهوية الثقافية، وصارت، اليوم، تدار بها سبل الحياة؛ فلا عجب أن نجد أنفسنا مكتوفي الأيدي أمام ظواهر اجتماعية تبدو منفلتة و مفكّكة ومنحلّة، ولكن إذا أحسنّا التأويل يمكن القول إنّه وعي جديد منفلت، يبنى في العوالم الافتراضية المصغرة، وتدار به مشكلات الحياة والزمن المعاش. 

ويشكل مفهوم "الجنسانية الرقمية Sexualité numérique" (أو جنسانية الحواسيب) واحداً من المفاهيم التي تسم هذه المرحلة من التاريخ الإنساني، يتجاوز مقولة "الإنسان الأعلى" ( لدى نيتشه) إلى "ذات" خادعة ومخدوعة، تنتهك الحدود والنظام المفروض اجتماعيا، بالاتجار في الأهواء ومخاتلات الرغبة والمفارقات اللامعقولة، تلك التي كانت تسمى ب"الطابوهات"، وصارت اليوم علامة تجارية.

ولا نعني بمفهوم "الجنسانية الرقمية" ـ استعاريا ورمزيا ـ ما تقصده الدراسات الاجتماعية والثقافية باعتباره مفهوماً محورياً في التنشئة الاجتماعية والتنظيم الأسري، (الجندر Gender، النوع الاجتماع، الجنوسة..)، بل ذلك المحتوى (فيديوهات، صور، لايفات، محادثات..) الذي يجمع بين الجنس والوهم عبر وسيط افتراضي، ويكون موضوعه إظهار مفاتين الجسد العاري (الأنثوي والذكوري) أمام كاميرا الحواسيب وشاشات السمارتفون، مقابل صفقة مادية؛ تجود بها "رأسمالية المنصات" (زيادة عدد اللايكات للمحتوى، أو تحقيق نسبة مهمة من المشاهدات أثناء اللايفات المفتوحة)، أو يتم الاتفاق عليها خلف كواليس منصات التواصل الافتراضية، (الميسانجر، الواتساب، سناب شات..إلخ). ويمكن أن يتحول هذا المحتوى إلى ابتزاز الزبون أو التشهير به وفضحه أمام "العامة الافتراضية" التي تحبذه وتستمتع به. (والشواهد كثيرة في هذا المجال).

ولا يقل هذا المفهوم أهمية وتأثيراً من المفاهيم الاجتماعية والفكرية الأخرى التي قاربناها (التمرد، الإيديولوجية، الثمثلات، الهوية..إلخ)، بل إنّه يسم ظاهرة اجتماعية أوسع، تنشط في العوالم الافتراضية ـ خاصة المراهقين ـ  وأحد الأدلة المثيرة للقلق على هذا الاحتمال يأتي من تلك المواقع الافتراضية (والإباحية) الخاصة بالدردشة والمتعة التي تحظى باللايكات مثل: (هلامي Halame، تندر Tinder سناب شات  Snapchat، عرب شات، شات بنات، شات أونلاين... إلخ)، أو تلك النجوم البغائية (نساء، متحولون) التي تتاجر في أعضائها (النهدين، المؤخرة، الأرداف، الشفاه، الجيد...)، وتتقن آليات التمويه والتلاعب، بحركات بورنوغرافية: (خلع السروال، حركات وإيماءات لطيفة، روتيني اليومي، الإغراء بالدخول إلى الغرف الافتراضية المغلقة (الواتساب مثلا)، بغرض مادي (إرسال رمز تعبئة الهاتف، أو زيادة نسبة المشاهدات للروابط الافتراضية الخاصة بهذا المحتوى، أو مآرب أخرى شاذة). 

 إن خبث هذه الأشكال، ستبني أشكالاً من التخيّل والاستيهامات، والتفاعل والعلاقات، وستدعم حتماً ما كان يسمّيه "سيجموند فرويد" "كبثاً طفولياً، (أو بصيغة أخرى، "إرادة السيطرة والتفوق" عند "ألفريد آدلر")، مما سيّغير  من الطبيعة الفطرية البدائية للإنسان التي هي "أساساً غير قابلة للضبط، تظهر إلى الضوء في ظاهرة التحويل"،(حسب تعبير كارل يونغ) . وتدوس فوق كل معيار قيمي وتقويمي، وأنظمة الرقابة والتبرير، والقوانين الواقعية.

ويأتي هول هذه الفلتات الجنسية التي تنفرد بها التقنية في محتواها الذي يزيح الإنسان عن بعده السيكوبيولوجي إلى ما هو سيكوفتراضي، هذا البعد التركيبي سيولد، لا محالة، لذّة عابرة ولحظية، وتكرارها يستوجب مطاردة مواردها باستمرار، والخوارزميات الافتراضية تسهل تلبيتها، فتتحول المطاردة إلى حالة إدمان ينتج عنها عنفاً لا سبيل إلى كظمه، ويتضاعف من دون هدف.

ولعل هذه الحالة السيكوفتراضية ستزيد، لا محالة، من سيرورات الكد والرفض، وتقرظ كل ما يضاد طبيعة الفرد، وتقصّر الحياة الشخصية (وما يفيض عنها من مشاعر)، على الصور وفيديوهات الأجساد العارية، دون "تواصل بين الذوات"، أو ما تسمّيه الظاهراتية المعاصرة ب "بين ـ الذاتية (intersubjectivité)"، حيث المشاعر  تصير مقصورة على الشاشات، وردود أفعالها العنيفة تظهر في الشوارع مضاعفة، سواء على مستوى القول أو على مستوى الفعل/السلوك: (التحرش، التغير على مستوى السلوكات الجنسية (اللواط والمثلية)، الاغتصاب، زواج المسيار، العنف الأسري، البغاء، الهذيان، الكبت، العزلة)، وهو ما يقوض التنشئة الاجتماعية السليمة، ويضخم القهر النفسي.

إن هذا التّعرّي الافتراضي يوقع متتبعيه تحث سلطة الوهم المتكرر، والاعتقاد بصحته، ويبني عقلاً عارياً من الناحية القيمية، رافضاً واقعَه الاجتماعي، ومستهلكا هذه الهواجس اللاشعورية، وأكثر  تصديقاً بالأحلام والخرافة والشعوذة والبيانات الكاذبة، مما يسهل استهدافه بدقة ولأغراض محددة، ذلك أن السعي الدائم وغير مجدي وراء المشاعر سريعة الزوال "يجعلنا في حالة مستمرة من التوتر والأرق وعدم الرضى، ويكون العقل بسبب هذا السعي غير راض أبدا، فهو لا يكون راضياً حتى حين يشعر بمتعة، لأنّه يخشى اختفاء هذا الشعور سريعاً، لذا يتوق إلى أن يبقى هذا الشعور ويتوطد"(يوفال نوح هراري) .

هكذا تفتح التقنية الرقمية طموحات هائلة، وبلا حدود، أمام الأفراد لتحقيق المنافع والأرباح وإنتاج الثروة والسلطة، يمكن تصنيف هذه الطموحات، من الناحية الاقتصادية، ضمن "اقتصاد المنصات"، أو "رأسمالية المنصات"، ما يفتح مجال البحث عن أفكار يمكن تسويقها ونمط العيش يمكن تدوله، وهذا الملمح يفسر انتشار "يوميات أسرية" على منصة "التيك توك"، تحصد الملايين من المتابعات. وفي المقابل تتعدّل التصورات وأنمط التفكير  والإنتاج وسبُل النجاح. وخلف هذا تعديل "تلوح ظواهر التدمير الذاتي الكبرى كعلة أو أثر لهذا التعديل، أي التدمير الذاتي للحياة، الذي هو عينه التدمير الذاتي للثقافة" (ميشيل هنري).