يعتبر " إمانويل كانط " [ ولد في 22 أبريل 1724 في كونغسبيرغ شرق بروسيا / وتوفي بها في 12 فبراير 1804 ] لدى بعض الدارسين أنه " كان آخر فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر ضمن التسلسل الكلاسيكي لنظرية المعرفة خلال عصر التنوير الذي بدأ بالمفكرين جون لوك ، جورج بركلي وديـفـيد هـيـوم . خلق " كانط " منظورا واسعا جديدا في الفلسفة أثر في الفلسفة حتى القرن الواحد والعشرين . نشر أعمالا هامة عن نظرية المعرفـة كذلك أعمالا متعلقة بالدين والقانون والتاريخ . واحد من أكثر أعماله شهرة هو نقد العقل المجرد ، الذي هو بحث واستقصاء عن محدوديات وبنية العقل نفسه . "
ولعل من بين الأسباب التي دفعتني لعرض هذا المقال أمران اثنان هما : أولهما ؛ إحياء الذكرى المئوية الثالثة لميلاد مفكر تربوي مع بداية العصر الحديث من بين الداعين إلى تطوير المسار التربوي . وثانيهما ؛ عرض آراء " كانط " التربوية حاليا ، وما مدى توافقها مع الواقع التربوي المعيش ؛ من حيث القيم والمبادئ العامة التي نعيشها في العالم عامة ، وفي العالم العربي خاصة ، وهو ما يشغل بال العديد من المربين والمهتمين بميدان التربية والتكوين ، وما تعرفه الساحة التربوية من طرحٍ لقضايا متعلقة بإصلاح المنظومة التربوية ببلدنا حاليا ، ذلك أن جـذور الـتـربية الحديـثـة تـمـتـد " إلى ما وراء القرن العـشـرين . وقد رأيـنـا تـبـاشـير هـذه التـربـيـة لدى مُـربيــن من أمثـال " روسـو " أبي التربية الحديثــة ، و" بستالوزي " و" فروبل " ، بل حتى لدى " مونـتـيـنـي " ( MONTAIGNE ) و" كومينوس " ." [ الصفحة 503 من كتاب " التربية عبر التاريخ من العصور القديمة حتى أواخر القرن العشرين " للدكتور عبد الله عبد الدائم - دار العلم للملايين بيروت - الطبعة الخامسة يناير 1984 ] .
وقد تم تحديد الغاية من التربية أن " المهمة الكبرى للإنسان هي أن يعرف كيف يملأ مكانته بين الخليقة على النحو اللائق ، وأن يفهم جيدا ما يجب أن يكون عليه الإنسان حتى يكون إنسانا حقا " ... " إن الإنسان لا يمكن أن يصير إنسانا ( حقا ) إلا بالتربية . إنه ما تصنع منه التربية ، وغاية التربية هي : تربية الشخصية ، تربية كائن يفعل بحرية ، ويحافظ على كـيـان نفسه " . [ ص 121 من كتاب " فلسفة الدين والتربية عند كنت " تأليف الدكتور عبد الرحمن بدوي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة الأولى 1980 ] .
وبالتالي سيتم الحديث عن بعض آراء الفيلسوف " إمانويل كانط " التربوية التي هي نتاج فكره الفلسفي خلال مرحلة تدريسه .
من مؤلفات " كانط " :
* " نقد العقل الخالص " [ 1781 ] ( الطبعة الثانية ) ؛ ترجم مرتين عنوانهما : " نقد الفكر المحض " تعريب موسى وهبة / مركز الإنماء القومي - بيروت ( دون تاريخ ) / و " نقد العقل المجرد " تعريب أحمد الشيباني / دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر- بيروت ( دون تاريخ ) ؛
* " نقد العقل العملي " [ 1788 ] ترجمة غانم هنا / المنظمة العربية للترجمة - مركز دراسات الوحدة العربية - الطبعة الأولى - أكتوبر 2008 ؛
* " مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة من حقها أن تتخذ صفة العالم " [ 1783 ] تعريب نازلي إسماعيل حسين ، مراجعة عبد الرحمن بدوي / دار الكتاب العربي ، القاهرة 1967 ؛
* " تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق " [ 1785 ] / ترجمة وتقديم د . عبد الغفار مكاوي ، مرجعة عبد الرحمان بدوي - الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة 1980 ( ترجم هذا الكتاب ثلاث مرات ) ؛
* " نقد ملكة الحكم " [ 1790 ] ترجمة سعيد الغانمي / طبعة " كلمة "- منشورات الجمل - الطبعة الأولى 2009
* " تأملات في التربية - ما الأنوار ؟ - ما التوجه في التفكير ؟ " [ ثلاثة نصوص ] / تعريب وتعليق محمود بن جماعة - الطبعـة الأولى 2005 .
وقد تكلف الأساتذة الأصدقاء بتأطير الحديث عن فكر الفيلسوف " إمانويل كانط " ، وكان من نصيبي الحديث عن فكره التربوي ، فوقفت عند قراءة الجانب التربوي لديه باعتماده من خلال النص الأول : " تأملات في التربية " ؛ دون تفصيل الحديث عن النصين الآخرين : " ما الأنوار ؟ " - "ما التوجه في التفكير " ؛ وهي نصوص من تأليف " إمانويل كانــط " / من تعريب وتعليق محمود بن جماعــة . وهو كتاب صدر في الذكرى المئويـة الثـانيـة لـوفــاة " إمانويل كانط " ، يقع في 142 صفحة من الحجم المتوسط . [ تجدر الإشارة إلى أن النص تمت ترجمته كذلك ، تحت عنوان : " في التربية / وإجابة عن سؤال : ما التنوير ؟ " من قبل جوزيف معلوف بنشر مؤسسة الرافدين - بغداد العراق - الطبعة الأولى يناير 2022 . كما أنه سبق أن تم صدور هذه النصوص ضمن مقالات نشرت في مجلات عدة .] . كما يمكن الرجوع إلى العديد من الكتب والمقالات التي كتبت حول فكر " كانط " من بينها كتاب : " فلسفة الدين والتربية عند كنت " / تأليف الدكتور عبد الرحمن بدوي ؛ المشار إليه أعلاه .
تأطير الكتاب :
تم اعتماد النسخة الأولى للكتاب [ ثلاثة نصوص " تأملات في التربية - ما الأنوار ؟ - ما التوجه في التفكير " تأليف " إمانويل كانط " / تعريب وتعليق محمود بن جماعة ؛ كما أسلفت ؛ وركزت على النص الأول : " تأملات في التربية " ( والذي أعـد بين سنتي 1776 و 1787 ) من الصفحة 9 إلى الصفحة 82 ؛ وهو الجزء الذي يشكل أكبر مساحة كتابية عدا ما يتعلق بتوطئة المترجِم من ص 3 إلى ص 8 . [ للإشارة بالكتاب كذلك النص الثاني : " جواب على السؤال ما هي الأنوار ؟ " ( أعد سنة 1784 ) ؛ من الصفحة 97 إلى الصفحة 94 . والنص الثالث : " ما التوجه في التفكير ؟ " ( أعد سنة 1786 ) من الصفحة 97 إلى الصفحة 114 ] . وتلت النصوص الثلاثة قائـمة في أهم مؤلفات " كانط " ومقالاته مرفقة بتاريخ صدورها ؛ من ص 115 إلى ص 118 . والمراجع باللغة الأجنبية واللغة العربية من ص 119 إلى ص 120 . وقائمة مصطلحات باللسانين العربي والألماني ، وبالعربي والفرنسي من ص 121 إلى ص 128 . وكشف أهم المصطلحات من ص 129 إلى ص 133 ، ثم كشف أهم الأعلام في ص 134 ، والفهرس في ص 135 .
" إن عنوان " تأملات في التربية " هو في الأصل من وضع " ألاكسيس فيلوننكو (ALEXIS PHILONENKO) الذي ترجم الكتاب إلى اللغة الفرنسية . وهو مجموعة من المذكرات سلمها " كانط " ( KANT) ( 1724 / 1804 ) في آخر حياته المهنية إلى أحد أتباعه " ريـنـك " (RINK ) ، موصيا إياه باختيار ما يكون منها أكثر فائدة للجمهور . وتعود هذه المذكرات إلى دروس في البيداغوجيا ألـقـاهـا " كـانـط " في جامعة " كونقزبارق " ( KONIGSBERG) أثناء فترات متقطعة من سنة 1776 إلى سنة 1787 .
ولا يُـعـرَف إن كان " رينك " قد نشر كامل النصوص التي تسلمها من " كانط " ، وخاصة إن كان النظام الذي رُتِّــبَ وفقه النصوصُ هو النظام المعتمد في المخطوط . ويكاد يكون من الثابت أن " رينك " هو الذي أضاف العناوين الفرعية : توسُّع ، في التربية الجسمية ، في التربية العملية . وعلى أي حال ، يمكن اعتبار أن الكتاب لا يملك نظاما مرضيا تماما . فهو يتضمن بعض التكرار ، بينما التحاليل التي يتوسع فيها " كانط " تفتقر إلى التوازن .
وتنم هذه النصوص عن اهتمام حقيقي بمسألة التربية لازمَــهُ طوال حياته الفكرية . ولم يكن نتيجة واجب مهني فُـرِضَ على فيلسوف عظيم . فنحن نجد في كتاباته العديد من الخواطر حول التربية ، بدءاً ببرنامج دروس ( ــه ) لفترة الشتاء السداسية 1765 - 1766 حيث أكب " كانط " على مشكل التعليم وطرحَ بقدرٍ كبير من الوضوح مسألة التضارب بين محتواه من جهــة والإمكانات الذِّهـنـيـة لدى التلميذ من جهة أخــرى . كما أقبل بشغـف كبير على قراءة كتاب " روسو " ( ROUSSEAU) " أميل " أو " في التربية " ( 1762 ) ( Emile ou de l’éducation ) . " . [ توطئة المترجم ص 6 و 7 من الكتاب ] .
آراء " كــانـط " التربوية :
" إن تصريح " كانط " بأن " التربية هي أهم وأصعب مشكلة تطرح على الإنسان " ، ليس من قبيل التأكيدات السطحية أو الزخرف اللفظي ، بل يُعَـبِّــر عن فكرة راسخة في ذهنه . وإلى هذا يُـعـزى بلا شك أنه بوسعنا أن نجد ؛ حتى في بعض مؤلفاته الأكثر تميُّـزاً بالطابع الفلسفي ؛ أفكارا تتعلق بالبيداغوجيا التي تمده بأطر للتفكير مثلما يتجلى في ما يذهب إليه من وجود انضباط للعقل الخالص ، بما تحمله هذه الكلمة من دلالة بيداغوجية صرف . زد على ذلك أن فكرة " التنوير " المركزية لدى " كانط " تتضمن بعدا تربويا على قدر كبير من الأهمية ، ليس بالنسبة إلى الفرد وحده ، ولكن بالنسبة إلى المجتمع والعصر أيضا ، مع ما يربطها من علاقة وثيقة بفلسفته السياسية . " [ المرجع السابق ص 7 ] .
في قراءة لفكر " كانط " في النص الأول : " تأملات في التربية " أنه " لم يكن يهتم بإرساء " نظام " تربوي قبلي بقدر ما كان يسعى إلى الجمع بين دروس التجربة ومشروعات العقل . ولا شك في أن تعليم الأطفال ، على محدوديته ، سمح له بتقدير الصـعـوبات والعوائق التي يمكن أن يتلقاها المربي في أداء مهامه التعليمية ." [ المرجع السابق ص 8 ] .
وأشار " كانط " في نص : " تأملات في التربية " إلى أن إصلاح التعليم مرتبط أساسا بإعداد مؤسسات تربوية مؤهلة ، وتمكين كذلك المدرسين من تكوين تربوي جديد مغاير لما كان عليه من قبل ، قادر على إحداث التغيير والإصلاح المنشودين لإنجاز نقلة نوعية فيهما ( المدرسة والمدرس ) لتجاوز عيوب التعلم والتنشئة لدى المتعلمين رغم ما عرفه علم النفس من تقدم قادر على فهم التحولات النفسية التي يعرفها الإنسان من طفولته إلى مراهقته ، وهو ما يستدعي إعادة طرح قضايا تربوية جديدة معيشة تؤسس لتفكير مستند أساسا على العقل والتجربة .
هذا ولئن مَـثَّـلت آراء نص " تأملات في التربية " في هذا الكتاب القسمَ الأكبر ؛ كما أسلفت ؛ فإن اختيار نشر النص الثاني : "ما هي الأنوار ؟ " ، والنص الثالث : " ما التوجه في التفكير ؟ " " ينطلق من أن هذين المقالين يسلطان الضوء على قيمة أساسية في فلسفة " كانط " ، وهي قيمة الحرية مجسمة في حرية التفكير ، بما تحمله من استتباعات خطيرة ، لاسيما في مجال التربية ". [ المرجع السابق ص 11 ] .
وبالتالي فإن إعداد " كانط " لهذه النصوص الثلاثة مخطط واضح لديه لــ " نقد العقل الخالص " ، وجزء مرحلي مهم لتأسيس دروس الميتافيزيقا وفق منظور مسألة البيداغوجيا خلال مرحلته الفكرية التي اصطلح على تسميتها بالمرحلة النقدية .
ملخص مضامين نص : تأملات في التربية :
سأحاول ؛ بكيفية جد مقتضبة ؛ الاقتصار بعرض مجموعة من آراء " كانط " التربوية التي تضمنها نص : " تأملات في التربية " ، ( دون التفصيل للنصين : الثاني والثالث ) ؛ كما أسلفت ؛ وتمت هيكلة النص الأول كالتالي :
1 . الإنسان / 2 . توسُّع / 3 . في التربية الجسمية : تربية الجسم - التربية العقلية - الثقافة / 4 . في التربية العملية .
وحرصا للأمانة تم نقل العديد من الآراء بكيفية مجتزأة لعكس مضامين المداخل الأربعة ؛ المشار إليها أعلاه ؛ حول هيكلة النص . مع إثبات بعض الإشارات والتوضيحات التي أرى ضرورتها للسياق ؛ احتراما للقارئ ، وتركا للمختصين والدارسين سبل سبر أغوار فكر الفيلسوف " إمانويل كانط " ، على اعتبار أن هذا المقال بسْـطٌ بسيطٌ متواضع جدا لإثارة الحديث والنقاش حول آراء " كانط " في هذا الكتاب ، وهو ما أعرضه على القراء الأفاضل كالتالي :
أولا : الإنســـــان :
" الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربـيـتـه . ونقصد فعلا بالتربية الرعاية ( التغذية ، التعهد ) الانضباط والتعلم المقترن بالتكــوين ( BILDUNG) . ومن هــذه الزوايــا الثلاث يكون الإنسان رضيعــا ، وتلميذا ، وطالبا . " [ المرجع السابق ص 14 ] . غير ما هو مألوف عند باقي المخلوقات من الحيوانات وغيرها . ذلك أن الإنسان يحتاج للرعاية من طعام ودفء وتوجيه وحماية معينة . والانضباط يحوِّلُ الحيوانية إلى الإنسانية ؛ خاصة في امتثاله لضوابط التربية بالمؤسسة للتعود على الابتعاد عن النزوع الحيوانية ، والامتثال لأوامر العقل . والإنسان في حاجة إلى رعاية وتكوين ، " ولا يستطيع الإنسان أن يصير إنسانــا إلا بالتربية " [ المرجع السابق ص 17 ] ، لتنميته للاستعداد إلى الخير .
" وهذا هو مبدأ في فن التربية ، ينبغي خاصة على الناس الذين يُـعِـدُّون مخططات في التربية أن يضعوا نُصب أعينهم : يجب أن لا يُـربّى الأطفال فقط بحسب حالة النوع البشري الراهنة ، بل بحسب الحالة الممكنة التي تكون أفضل منها في المستقبل ، أي فكرة الإنسانية وغايتها الكاملة " [ المرجع السابق ص 22 ] .
وقد حدد " كانط " إطار عاما لتربية الإنسان بقوله : " في التربية إذن ، على الإنسان أن يكون :
1 . منضبطا . والانضباط يعني : السعي إلى الحيلولة دون أن تؤدي الحيوانية إلى فقدان الإنسانية ، سواء في الإنسان الخاص أو في الإنسان الاجتماعي . فالانضباط لا يتمثَّـل إلا في ترويض التوحش .
2 . على الإنسان أن يكون مثـقـفـا. والثقافة تشمل التعليم ومختلف مواد التدريس ، وتوجِـد المهارة . وهذه الأخيرة هي امتلاك قدرة كافـية لكل الغايات التي يمكن أن نسعى إليها . فهي لا تحدد بذاتها أي غاية ، بل تترك تلك الغايات للظروف .
إن بعض الأشكال من المهارة هي دائما حسنة ، مثلا : القراءة والكتابة ، وأخرى ليست حسنة إلا لأجل غايات معينة ، مثلا : الموسيقى لنكون محبوبين . والمهارة هي ، بوجه عام ، لا محدودة نتيجة تعدد الغايات .
3 . ينبغي أيضا الحرص على أن يصبح الإنسان متصفا بالحيطة وأن يتكيف مع المجتمع الإنساني ، وأن يكون محبوبا [ كان " كانط " محبوبا بين طلابه ليس فقط لأن محاضراته كانت حيوية لكن أيضا بسبب الملاحظات المرحة الكثيرة التي يقحمها ] ، وأن يكون له تأثير . وهذا يسمى حضـارة . فهي تتطلب آدابا في التعامل وتهذيبا في السلوك ونوعا من الحيطة يمكٍّـن المرء من استعمال كل الناس لغاياته الأساسية (Zu sien Endzwecken) . كما ينتظم هذا الشكل من الثقافة بحسب الذوق المتغير في كل عصر . من ذلك أن الناس كانوا منذ فترة خلت يحبون الاحتفالات الجماعية .
4 . لا بد من الحرص على التنشئة الـخـُـلـُـقـية . فينبغي أن لا يكون الإنسان مؤهلا لشتى الغايات فحسب ، بل ينبغي أيضا أن يكتسب إحساسا ( Gesinnung) يجعله لا يختار الغايات الحسنة . وهي التي يتبناها بالضرورة كل شخص ويمكن أن تكون في الوقت ذاته غايات كل إنسان " [ المرجع السابق ص 25 و 26 ] .
وقد أكد " كانط " أن تربية وتنشئة الطفل أساسا مرتبطة أولا بالآباء والأولياء ، وليس فقط المؤسسة التعليمية والمدرسين ؛ " والأولياء هم الذين يعنون بالتربية الخاصة ، وإلا فأشخاص آخرون من المساعدين المأجورين إن لم يكن للأولياء القدرة وحتى الذوق للقيام يذلك " ... " فإلى أي حد ينبغي أن تفضل التربية الخاصة على التربية العمومية على هذه الأخيرة على الأولى ؟ " [ المرجع السابق ص 29 ] .
وكم من الوقت ينبغي أن تدوم التربية ؟ : " إنها تستمر حتى الفترة التي أرادت فيها الطبيعة أن يتدبر الإنسان أمره بنفسه ، إلى أن تنمو فيه الغريزة التي تتعلق بالجنس . إلى أن يستطيع هو نفسه أن يصبح أبا ويكون هو نفسه ملزما بأن يربي . " [ المرجع السابق ص 29 ] .
ثــانـيـــا : تَــــوسُّــــــع :
كما سبق أن أشرت أنه قد يكون من الثابت أن " رينك " هو الذي أضاف العناوين الفرعية : توسُّع ، في التربية الجسمية ، في التربية العملية ؛ وبالتالي فإن هذا العنوان / الجزء من النص : توسع " امتداد له وتمثيل لمضمونه بشكل أو بآخر . وأهـم تسجيل لآراء " كانط " نقرِؤها بقوله : " البيداغوجيا أو علم التربية ، إما جسمي أو عملي . فالتربية الجسمية ، المشتركة بين الإنسان والحيوانات تتمثل في التصرف مع كل منهما ، أما التربية العملية أو الأخلاقية ، فبواسطتها يثقف الإنسان كي يستطيع أن يعيش كائنا فاعلا بحرية ( يسمَّـى عمليا كل ما له صلة بالحرية) . وهي تربية ترمي إلى تكوين الشخصية ، تربية كائن يتصرف بحرية ويقدر على الاكتفاء بذاته وعلى أن يكون عضوا في المجتمع ، ولكنه قادر أيضا على أن يمتلك لنفسه قيمة ذاتية . " [ المرجع السابق ص 31 ] .
ويحدد " كانط " مفهوم التربية العملية التي تتكــوَّن :
" * من الثقافة المدرسية ( السكولاتية ) والآلية في علاقة بالمهارة ، وبهذا المعنى تكون تعليمية ( الأستاذ ) ؛
* من الثـقـافـة البـرغـمـاتـية المتعلقة بالحيطة ( المربي ) ومن الثقافة الأخلاقية الخاصة بالخُـلقية " . [ المرجع السابق ص 31 و 32 ] .
ثــالــثـــا : في التربية الجسميـة :
1 . تربية الجسم :
أكد " كانط " أن من يباشر بصفته بيداغوجيا ( أو مربيا ) ينبغي أن يعتني بالتربية الجسمية للأطفال ؛ من الرعاية التي يوفرها أولياؤهم أو المرضعات من تغذية سليمة كافية ، ودفء كاف لعيشهم . وأكد أن " الشعوب المفتقرة إلى الثقافة لا تعرف القماط ، ومن ذلك الشعوب المتوحشة في أمريكا " [ المرجع السابق ص 35 ] .
2 . التربية العقلية :
من المعلوم أن العلوم الإنسانية تضم مجموعة من المؤثرات التي تقود إلى حرية عقل الإنسان ؛ وهذه العلوم يجب ألا تستعمل مجرد اسم نوعي لأقسام معينة من المعرفة ، أو أجزاء من برنامج تعليمي مدرسي ؛ بل هي إحدى إمكانية من إمكانيات التطور الإنساني من خلال النمو العقلي والتعامل مع المحيط ؛ إنها دوما ضمن مجال الوسائل المادية والمعنوية التي يضعها المربون لتربية أجيال تقوم نفسها بتكوين الآخرين لنقل المعرفة والثقافة الجمعية .
إن الثقافة بمعناها الواسع إدراك الإنسان خلال تعلمه لقوانين العالم المعروف ولطبيعته ، وكذلك لمناهج المعرفة التي تقود إلى إشاعة قيم الحرية ؛ لأن الحرية قوام كرامة الإنسان ؛ أي إنسان ؛ ومع أن البشر قد يمتلكونها على درجات متفاوتة ؛ فإنها ليست امتيازا خاصا لأي فرد أو جنس أو طبقة . " لنخلص الآن إلى ثقافة النفس التي يمكن أيضا أن نسميها بوجه ما ثقافة مادية . وفعلا ، لا بد من التمييز بين الطبيعة والحرية ، فسـن قوانين للحرية مغاير تماما لتنمية الطبيعة . ومع ذلك تتوافق طبيعة الجسم وطبيعة النفس في الأمر التالي " [ المرجع السابق ص 48 ] ."
" ولا بد من تمييز الثقافة المادية من الثقافة العملية التي تكون إما بـرغـمـاتية ، وإمـا أخـلاقـيـة . وهذه الأخيرة ليست الثقافة ، بل التنشئة الأخلاقية للإنسان . ونقسم ثقافة الذهن المادية إلى حرة ومدرسية ، فالثقافة الحرة ليست ، إن صح القول ، سوى لعب ، بينما الثقافة المدرسية شيء جدي ." [ المرجع السابق ص 49 ] .
ويؤكد " كانط " أنه " لا بد من تنمية الذاكرة في سن مبكرة ، مع تنمية الفاهمة في ذات الوقت . وتُـنَـمَّــى الذاكرة :
أ . بحفظ الأسماء الواردة في القصص ؛
ب . بالقراءة والكتابة ، فلا بد من تدريب الأطفال على حفظ هذين الأمرين الأخيرين دون اللجوء إلى التهجية باللغات التي ينبغي أن يتدرب الأطفال عليها أولا بالسماع ، قبل أن يَـ خْـلُـصوا إلى قراءة شيء منها " ... " ومع ذلك لا بد أيضا من أن يتعلم الطفل تمييز المعرفة تمييزا جيدا من مجرد الظن ومن الاعتقاد ، وبذلك نُـكَــوِّن فاهمة صائبة وكذلك ذوقا ليس للمرهف أو الحساس ، ولاسيما العينين ، بل أن يكون فيما بعد ذوق الأفكار على الإطلاق " . [ المرجع السابق ص 55 و 56 ] .
3 . الثـقـافــة :
حدد " كانط " المفهوم النسقي للثقافة للهدف من التربية عن طريق :
" 1 . الثقافة العامة لقوى الذهن التي تختلف عن الثقافة الخاصة . فهي تنشد المهارة والإتقان ، والمقصود ليس بقدر كبير تعليم التلميذ بل تكوين قواه العقلية ، فتكون الثقافة :
أ . إما مادية . وهنا يقوم كل شيء على التمرين والانضباط ، دون أن يضطر الطفل إلى معرفة المبادئ . وهي ( أي الثقافة ) تنبني على التقبل لدى التلميذ ، إذ لا بد من أن يتمثل لتوجيه الغير ، فثمة أناس آخرون يفكرون بدلا عنه " .
ب . وإما أخلاقية . فلا تقوم عندئذ على الانضباط ، بل على المبادئ ... فلا بد من الحرص أن يتصرف التلميذ تصرفا حسنا انطلاقا من مبادئه الخاصة ، لا بحكم العادة ، وأن لا يفعل ما هو خير فحسب ، بل أن يفعله لأنه هو الخير . وفعلا ، تنبني القيمة الخُـلُـقية للأفعال على مبادئ الخير . وبناء عليه ، تختلف التربية المادية عن التربية الخُلُقية من حيث الأولى تُـقـبُّـل بالنسبة إلى التلميذ . وأن الثانية تعتمد على نشاطه ... " [ المرجع السابق ص 57 و 58 ] .
2 . الثقافة الخاصة بالقوى العقلية . هنا تحضُـر الثقافة المنميّة للقدرة على المعرفة ، وللحواس والمتخيلة والذاكرة وقوة الانتباه وللهزل . وهي تختصُّ القوة الباطنية للفاهمة . " [ المرجع السابق ص 58 ] . وأعطى أمثلة لذلك مؤكدا " انتهاج الطريقة السقراطية في تربية العقل . وفعلا ، فإن " سقراط ( SOCRATE) الذي كان يسمِّـي نفسه المُـولِّـد لمعارف مستمعيه [ المرجع السابق ص 60 ] .
رابـعـا : في التربيـة العـمـلـيــة :
حدد " كانط " الإطار الذي تشتمل عليه التربية العملية في المهارة والحيطة والـخُــلـقــية .
فالمهارة " ينبغي الحرص أن تكون راسخة ، لا عابرة . ويجب أن لا يظهر المرء بمظهر من يمتلك المعرفة بأشياء لا يستطيع مع ذلك إنجازها فيما بعد . فلا بد أن تكون للجدية (GRUNDLICHKEIT ) مكانتها في المهارة ، وأن تصبح بالتدريج عادة في طريقة التفكير . وهذا هو الأساس في الطبع لدى الإنسان . فالمهارة ضرورية للموهبة " . [ المرجع السابق ص 70 ] .
" أما عن الحيطة ( WELTKLUGHEIT ) فتقوم على فن تطبيق مهارتنا على الإنسان ، أي معرفة استعمال البشر لغايتنا الخاصة . ومن أجل ذلك تكون العديد من الأشياء ضرورية . إن الحيطة ، على وجه التحديد ، هي ما يكتسبه الإنسان في المقام الأخير ، إلا أنها تحتل المرتبة الثانية من حيث القيمة " . [ المرجع السابق ص 71 ] .
" أما الخلقية ، فهي تتعلق بالطبع . تحمل وازهد في الملذات " .. " كما يجب أن يتعود المرء على التعامل مع ميوله بحيث لا تتحول إلى أهواء " ... " أما التعاطف ، فيرجع إلى المزاج . وينبغي أن نقي الأطفال من تعاطف يغلب عليه الحنين والوهن . " [ المرجع السابق ص 71 ] . " والشيء الأهم هو تأسيس الطبع . فالطبع يقوم على الحزم في القرار الذي نريد به فعل شيء ما . وكذلك على إدخاله حيز الواقع [ ص 72 ] " يجب تلقين الأطفال الواجبات التي عليهم أن يقوموا بها [ ص 73 ] . والواجبات تجاه الذات لامتلاك إحساس داخلي معين بالكرامة ، والواجبات تجاه الآخرين بتقديرهم واحترامهم . وتنشئة الأطفال على النزاهة والإلزام بممارسة الأعمال الخيرية ، وعدم الحط من قيمة الغير أو إهانتهم .
وأكد " كانط " أن رغبات الإنسان إما صورية ( الحرية والسلطة ) أو مادية تتعلق بشيء ما . وهي رغبات ترتبط بالظن أو المتعة . فالأولى هي الطموح وإرادة الهيمنة والجشع . والثانية هي رغبات شهوانية . وبالتالي دعا " كانط " إلى اكتساب تربية متسمة بالفضيلة بمختلف تجلياتها ؛ بعيدا عن القبح ، والتزاما بالقانون الماثل في ضمير الإنسان لمحاسبة النفس كل يوم لتقدير قيمتها . و " التربية لا تتم بالترويض : إذ المهم قبل كل شيء هو أن يتعلم الأطفال كيف بفكرون . وهذا يتعلق بالمبادئ التي تنبثق عنها كل الأفعال ." [ ص 123 من كتاب " فلسفة الدين والتربية عند كنت " / تأليف الدكتور عبد الرحمن بدوي ] .
خـلاصـــة عــامــة :
عود على بدء لتسجيل أهم الخلاصة العامة لربط الآراء والأفكار التربوية التي تم عرضها الفيلسوف " إمانويل كانط " بالأفكار والمبادئ التربوية التي نعيشها حاليا ، ذلك ؛ في نظري ؛ أن البناء التربوي لفكر " إمانويل كانط " ارتكز على سيرورة الحياة الثقافية في ألمانيا خلال أواخر القرن الثامن عشر اعتمادا على النموذج التربوي السائد بها ، والتغيير المرغوب إحداثه فيها لبناء المنهاج التربوي ( الأهداف / البرامج / الطرائق والوسائل / أساليب التقويم ) باللغة الوطنية له . وللربط بين مجــال التربية والتكوين ، وبين المجـال الاجتماعي والاقتصادي لإنماء البلدان الأوربية ، وغيرها من الدول . وهو التصور الذي طمح إليه " كانط " ؛ آنذاك ؛ وما سعت إليه العديد من الدول الحديثة حاليا ؛ من بدائل قصد عرض المناهج في نموذج الإنماء الأكاديمي ، وهو أن " الجديد الذي يدخله هذا البديل في ميدان المناهج يظهر بالدرجة الأولى على صعيد اللغة الوطنية ؛ إذ تستبـدل باللغــات الأجنبية ، التي هي غالبا لـغـة المستعمر ، اللغة الوطنية ، وتدرس بواسطتها جميع المواد الدراسية . أما فيما يتعلق بمناهج المواد الاجتماعية فتدمج جميعها في مادة واحدة تسمى : الدروس الاجتماعية ".
[ الصفحة 121 من كتاب " الإنماء التربوي " / معهد الإنماء العربي - إعداد قسم الدراسات . إشراف د . أحمد صيداوي - مراجعة د . عبد الله عبد الدائم / الطبعة الأولى بيروت 1978 ] .
وهو ما يسعى كذلك ؛ ضمن الغـايــات والأهداف المطلوبة ؛ لربط التربية والتكوين بـنموذج الإنمــاء التربوي المنتــج " وهكذا - بفعل الحاجات الاقتصادية الاجتماعية المستجدة باستمرار - ظهـرت في جميع البلدان المتقدمـة ، رأسمالية كانت أو اشتراكية ، مجموعة من الاتجاهات التربوية الجديدة التي استهدفت في معظمها تحقيق المزيد من الترابـط بين التربية والإنتــاج والتي شملت كافــة عناصر النظام التعليمي سواء داخل المدارس أو خارجها " [ المرجع السابق ص 150 ] .
وعموما يمكن إجمـال القول : الدولة ترى أن العرض الاجتماعي من التربية والتعليم " وحدة مثالية ميتافيزيقية ، وهي وحدة روحية عظيمة لا يعدو الفرد فيها أن يكون عرضا زائلا ... وهي ( أي الدولــة ) تكفي نفسهـا بنفسهــا في المثـل العليـا ، فالأخلاق ما رأته هي ، والخير ما تصورته خيرا ؛ إذن لا بد أن يكون غرض الحياة بصفة عامة ، وغرض التربية بصفة خاصة ، خير الدولة ورفاهيتها " . [ الصفحة 31 من كتاب " التربية الحديثة ( التربية وطرق التدريس ) الجزء الثالث - صلاح عبد العزيز - دار المعارف بمصر - الطبعة السابعة ( دون تاريخ ) ] .