ما يَعْتري الديمقراطية من نقائص.. في ممكنات الخروج من التسلُّطية وعوائِقه

ما يَعْتري الديمقراطية من نقائص.. في ممكنات الخروج من التسلُّطية وعوائِقه المفكر محمد نور الدين أفاية مع صورة غلاف كتابه
أصدر محمد نور الدين أفاية طبعة جديدة من كتاب "الديمقراطية المنقوصة؛ في مُمكنات الخروج من التسلطية وعوائقه" عن منشورات الخيام، حيث أعاد تحرير الكتاب الذي كان قد نشره سنة 2013 في خضم ما نعت ب"الربيع العربي"، وحيَّن أفكار فصوله وأدخل إضافات جديدة عليها. ويبدو أن أفاية قام بتحضير الطبعة الثانية من كتابه من منطلق وعيه بالراهنية المتجددة للمسألة الديمقراطية سواء في العالم، أو في البلدان التي تحاول استنبات مقوماتها وآلياتها لتدبير الشأن العام.
 
قد تخلق صيغة "الديمقراطية المنقوصة" في عنوان الكتاب، للوهلة الأولى، بعض الالتباس في فهم خلفياتها ومقاصدها. ذلك أن بلدانا عريقة أسست للديمقراطية منذ أكثر من قرنين، وأقامت مؤسسات راسخة لحماية ممارستها تُصنَّف، اليوم، من الديمقراطيات المنقوصة، كما هو شأن فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وغيرها؛ في حين تمثل بلدان النرويج، وإيسلاندا، وسويسرا، وكندا، وغيرها بلدانا ذات "ديمقراطية كاملة"، وذلك حسب التصنيف الذي تضعه جريدة "ليكونوميست" الليبرالية البريطانية.
 
ويلاحظ أفاية، في مقدمة الطبعة الجديدة، أنه "ليس ثمة تعريف واحد للديمقراطية، أو ترجمة وحيدة لمبادئها ومقتضياتها، وإن تواطأ المتخصصون على ربطها بالحرية، واعتبار أن النظام الديمقراطي يستقيم أكثر كلما ضمن احترام أنواع الحريات كافة؛ في التعبير، والضمير، والحركة، والمبادرة، ووَضَع قواعد لحماية من يمارسها".
 
لذلك تسمح مُسوغات عديدة بتجديد التفكير في موضوع الديمقراطية؛ مهما تعرضت للنقد والتجريح، ولإرادات الالتفاف عليها، والحد من فعاليتها في المجتمع والتاريخ؛ ومهما شابَها من نقص في مؤشرات تقييم نظام ما في مستويات تدبير التعددية، والعملية الانتخابية، والثقافة السياسية، والمشاركة السياسية. ولعل في طليعة هذه المُسوغات كون هذا النظام السياسي ينتج آليات تتغير بتغير أشكال التعبير عن الإرادة الفردية والجماعية، وعن الشروط المؤسسية لمراقبة ممارسة السلطة، ولتدبير الشأن العام باعتباره يمس، في العمق، أنماط عيش الناس وعلاقاتهم، كما هو الشأن بالنسبة لتأطير حقوقهم وواجباتهم.
 
ويعتبر أفاية، في هذا الكتاب، أنه لا يكفي التعامل مع الديمقراطية بوصفها شعارًا، وإنما هي صيرورة تنطلق من التربية، والتعليم، والتأهيل، وتتعزز بالقانون، والاقتصاد، والثقافة. وفضلا عن أبعادها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، فهي تتمثل في المراقبة، والشفافية، والإعلام، والاستشارة، وأخذ الكلمة بحرية، وبعبارة أخرى ممارسة حرية النقد والمحاسبة. ولعل الجميع لاحظ كيف عملت الأنظمة الغربية على الحد من الحريات، وقامت بممارسة قمع شرس لكل من عارض سياسات الإبادة التي مارستها وتمارسها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني؛ أو لكل من ندد بها في الجامعات، والشوارع، والمنشورات.
 
من هذا الأفق يرى نور الدين أفاية، في مختلف فصول هذا الكتاب، أن "ثمة التباسا كبيرا بين الديمقراطية والليبرالية السياسية، خصوصا وأن أسئلة متجددة تفرض ذاتها عن التمثيلية والحقوق، والرأي العام، أو تطرح على صعيد التحكم في الصراعات، واقتراح أساليب جديدة لتسيير قواعد العقد الاجتماعي. وإذا اعتبرنا أن الديمقراطية الحديثة اقترنت، تاريخيا، بالليبرالية، فهي ليست مكسبًا نهائيا لأي كان، لأن الديمقراطيين هم الفاعلون الحقيقيون للديمقراطية، شريطة عدم السقوط في اعتبارها مجرد واجهة لحماية الرأسمال، أو لتبرير الأوتوقراطية، أو الريع".
 
من هنا يتعين الانتباه إلى أن صيغة "الديمقراطية المنقوصة..." لا تتضمن أي حكم قيمة، بالضرورة، وإنما اختيارها يدخل، كما يؤكد الكاتب، "في سياق وصف مدى التزام هذا النظام أو ذاك بما أصبح يُعتبر مؤشرات تقاس بها درجة التزامه بالشروط الرئيسية للاختيار الديمقراطي، وهي شروط اجتهدت هيئات، ووكالات، ومنظمات، وحتى دول في تحديدها، حسب خلفيات ومصالح كل جهة. لكن صحيفة "ليكونوميست" الليبرالية البريطانية، ومنذ سنة 2006، وضعت شروطا خمسة لقياس الديمقراطية في 167 بلدا؛ أولى هذه الشروط مدى احترام التعددية والعملية الانتخابية؛ ثانيها، نمط اشتغال السلطات العمومية ونجاعته؛ ثالثها، نسبة المشاركة السياسية؛ رابعها، الثقافة السياسية؛ وأخيرا، الحريات المدنية. وبناء على ما تسميه "مؤشر الديمقراطية"، الذي يعتمد على ستين معيار، وعلى نتائج مجموع النقط المحصَّل عليها، تُقسم الأنظمة السياسية إلى أربعة أنواع: البلدان التي تتميز بـ "ديمقراطية كاملة"، وتلك التي تدخل في نطاق "الديمقراطية المنقوصة"، والنوع الثالث تنعته بـ "النظام الهجين"، ثم أخيرا ما تصنفه "نظاما سلطويًا".
 
وفي ضوء هذه المؤشرات تدخل معظم بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط في إطار "الأنظمة الاستبدادية"، وقد حاولت تونس تغيير ترتيبها بعد "الثورة" على بنعلي، عندما انخرطت قواها السياسية في التحضير للانتقال الديمقراطي عن طريق كتابة دستور جديد وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، إلى أن بلغت الرتبة 82 عالميا. غير أن هذا البلد المغاربي، الذي كان يمكن أن يكون مختبرا في هذا المجال، يشهد انتكاسة في ظل سلطوية جديدة في المرحلة الحالية. أما المغرب فقد شرع في الخروج من خانة "النظام السلطوي"، حيث صنفته "ليكونوميست" في خانة "النظام الهجين" بحصوله على الرتبة 93، التي وصل إليها بشكل تدريجي طيلة السنوات القليلة الأخيرة.
 
هكذا نلاحظ أن الديمقراطية قد تكون منقوصة حتى في البلدان التي وضعت أسسها المعيارية واستنبتتها في الذهنيات، والمؤسسات، والحياة العامة. فالولايات المتحدة الأمريكية لا تكف تدعو إلى احترام حقوق الإنسان، وهي إلى اليوم، لم تصادق على عدد كبير من الأوفاق والمعاهدات المرتبطة بهذه الحقوق؛ بل وتدوس عليها كلما كانت وراء سياساتها مصالح استراتيجية، أو تتورط في الحروب التي لا تكف عن اختلاقها أو تدفع إلى اشتعالها، كما يحصل في حرب أوكرانيا، أو في تواطئها وتنسيقها المباشر والمشاركة العملية في إبادة الفلسطينيين في غزة. كما أن الديمقراطية الفرنسية تعرف تراجعات ملموسة على العديد من الصعد الاجتماعية، والصحية، والسياسية؛ وآخرها القرارات التي اتخذتها حكومة ماكرون لمصادرة حرية التعبير، ومنع التظاهر، وإغلاق وسائل الإعلام أمام تيارات الفكر والرأي بمناسبة الإبادة التي تقترفتها الدولة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
 
ومن جهة أخرى، يعتبر أفاية في الكتاب أنه "لا يمكن اختزال العملية الديمقراطية في الاتفاق على مرجعيات معيارية، قانونية، ومؤسسية، فقط، لأنها تستوجب التزاما عمليًا بترجمتها إلى ممارسات، وسياسات، ونتائج؛ كما تستلزم تقوية مستمرة للبناء الثقافي لمكونات الجماعة الوطنية، وفي علاقات الأفراد مع مختلف البنيات الاجتماعية، والسياسية، والإدارية؛ واعتبار أن هؤلاء الأفراد يتمتعون، فعلا، بصفات المُواطنة، حيث تصان حقوقهم، بمقدار ما يلتزمون بواجباتهم".
 
ولعل قارئ كتاب "الديمقراطية المنقوصة..." سيلاحظ بأن الانشغال المركزي الذي يهيمن عليه يمكن صياغته في الأسئلة التالية: "كيف يمكن الانتقال بالديمقراطية من الشعار إلى جعلها انتظارا جماعيا واسعا؟ وهل آليات التمثيلية –في الحديث عن الديمقراطية- ما تزال تمتلك ما يلزم من الصدقية والمشروعية لتجسيد الإرادة الشعبية؟ إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى دعوات المطالبة بتغيير أو بإصلاح أو بتحديث النظام السياسي ترفعها جهات وتيارات وهيآت هي نفسها تحمل جراثيم الفساد وعوائق التحديث؟
 
وللاقتراب من هذه الأسئلة بيَّن محمد نور الدين أفاية كيف أن التجارب المعاصرة في مجال التحديث السياسي تنجح حين تعمل النخب القائدة على تأهيل الاقتصاد، وتقليص الفجوة الاجتماعية بين الغنى والفقر، ووضع أطر سياسية مبنية على المشاركة والتداول والمحاسبة. علما بأن الإصلاح، بالمعنى العصري، يتطلب أربعة شروط رئيسية على الأقل تتمثل في:
 
بناء تصورات ورؤى ومشاريع تبدعها وتقترحها نخب فكرية وطنية في إطار من تقدير قيم التفكير والاجتهاد والنقد والمبادرة في كل المجالات؛
 
الاعتراف بالأدوار الطلائعية للمرأة والشباب في ميادين الإصلاح الاجتماعي، والتوعية، ونقل القيم الإيجابية، والمساهمة في المجال العام؛
 
الاستثمار في التعليم والإعلام والثقافة وتوفير ما يلزم من شروط إنتاج الأفكار والمعارف والفنون للارتقاء بالأذواق ومظاهر التحضر والمشاركة؛
 
تغيير نمط التفكير والتعامل مع المدينة، وتقليص الفجوات الصارخة مع البادية.
ويتعين الإشارة إلى أن كتاب "الديمقراطية المنقوصة.." تضمن أربعة فصول؛ أولها بعنوان: "تنازع الهويات في سياقات التحول"؛ وثانيها، "من الاستبداد إلى التعددية، في بعض مظاهر الديمقراطية المعلقة"؛ والثالث بعنوان: "قوى الانتقال الديمقراطي وعوائق التغيير"، وتناول الفصل الرابع موضوع: "متغيرات السياسة في المغرب؛ قوة التقليد وهوامش التحديث". وقد عالجت هذه الفصول أفكارا وقضايا تتعلق بالحاجة إلى تجديد النظر في المسألة الديمقراطية، ولا سيما بالنسبة لبلدان تسعى إلى الخروج من حالة السلطوية، أو من وضعية الهجانة بوضع أسس قواعد مستدامة للتداول على تدبير الشأن العام، والارتقاء بالمجتمع والدولة إلى مستوى الاستجابة لانتظارات الناس للعيش في مناخ من الأمن، والعدل، والكرامة.