عبد السلام بنعبد العالي: علامات يشي بها الوجه عن علاقتنا بذواتنا وبالآخر

عبد السلام بنعبد العالي: علامات يشي بها الوجه عن علاقتنا بذواتنا وبالآخر عبد السلام بنعبد العالي
عندما نسير في الشارع، عندما نأخذ الحافلة أو مترو الأنفاق، نرى الآخرين، نشعر تلقائيا بحضورهم كحضور بشري. هذه الحقيقة تعود أساسا إلى حقيقة أنهم يملكون وجوها. وجوها، أي ليس فقط "واجهة" يظهرون بها ككائنات لها عينان وفم وأنف، وإنما وجوه متفردة ترتسم عليها معان ودلالات. كل وجه منها يختلف عن الوجوه التي تحيط به، إنهم يملكون وجها يظهر تعبيرات، أي يدل على وضع، طريقة في الوجود، شعور، نية – تلك الحالات النفسية والأخلاقية التي ننسبها عادة إلى الشخص.
 
أنا لا أميزك عن غيرك أساسا بخصائص أعضائك وطول قامتك ولون شعرك، حتى إن أدخلت تغييرات على كل هذا، أو حتى إن تقدمت في السن، فأنا أتعرف عليك. فالإنسان يمكن أن يغير مظهره بكامله ما عدا وجهه. لأنه هو هو، لأنه هويته. لا غرابة ألا تحمل بطاقات الهوية إلا صورة الوجه. فنحن نتحدد بالبلد الذي ننتمي إليه، والعنوان الذي نقطنه، والرقم الذي نحمله، لكننا نتحدد أساسا بصورة وجهنا. فهو الذي يميزنا عن الآخرين الذين قد نشاركهم البلد وعنوان السكن، بل هو الذي يميزنا عما عدانا، إنه ما به نخالف الآخرين.
 
تفرّد
عندما ندرك الوجوه البشرية على أنها كلها متشابهة، يبدو لنا حضورها أقل إنسانية. ما يعطي كل منها تفرده الخاص هو الوجه. تفرد الوجه يحيل إلى هوية الشخص. وجهي يعبر عني كهوية فريدة، أكثر من اسمي الشخصي أو توقيعي.
 
 
تفرد الوجه يحيل إلى هوية الشخص. وجهي يعبر عني كهوية فريدة، أكثر من اسمي الشخصي أو توقيعي لذلك فإن الوجه هو ما به نتواصل مع غيرنا، إنه مرآة دواخلنا. وهو بالضبط ذلك التقديم الذي يقدم به الآخر نفسه، والذي لا علاقة له بمجرد مثول مجموعة من المعطيات، فالوجه ليس كائنا تشريحيا، ليس عينين وأنفا وذقنا وشفتين، إنه أكثر من مجموع أجزائه، إنه دلالة ومعنى. تميز اللغة الفرنسية بين وجه الآخر كمعطى حسي La face(الواجهة)، والجانب التعبيريLa figure ، والوجه بالمعنى الحقيقي  Le visage الذي يخترق المحسوس، والذي تَمثل لي وراءه الإنسانية بكاملها. الوجه ليس موضوعا من موضوعات العالم، وإنما هو "كيفية للظهور". إذا كان لنا وجه (وليس مجرد وجه بعينين وأنف وفم)، فليس فقط لأن الآخرين يدركون هويتنا من خلاله، ولكن أيضا لأنهم يدركون تعابيره، ولأنهم يكونون حساسين لحياة وجهنا ولأدق تفاصيله، ولأنهم يتفاعلون معه، ونحن بدورنا نتفاعل مع ردود أفعالهم من طريق النظر إلى وجوههم و"التملي بطلعتها". اكتساب هذه الخصائص الإنسانية الأساسية للوجه لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان الوجه يشارك في تواصل وتفاعل مستمرين بين الوجوه. من هذا المنطلق، يمكن مقارنة الوجه باللغة، فالوجه يتكلم.

علاقة مواجهة

إلا أن الوجه، مع ذلك، ليس شيئا يُرى ويظهر ويعبر ويتكلم فحسب، ليس أداة وصل وتواصل، وإنما هو علاقة مواجهة بين الآخر وبيني. علاقة أخلاقية مع ما ليس أنا، وما يتجاوزني بكيفية لانهائية. هذه اللانهائية تدفع "فيلسوف الوجه" إ. ليفيناس لأن يؤكد: "يحضر الوجه في تمنعه وعجزي عن احتوائه"، ذلك لأن للوجه "دلالة قبل أن أعطيه إياها" كما يقول صاحب كتاب "إنسانية الإنسان الآخر". "إذا ما رأيتَ أنفا، وعينين، وجبهة، وذقنا، وتمكنتَ من أن تصفها جميعها، فإنك تتوجه نحو الآخر كموضوع من الموضوعات. أفضَل طريقة للقاء الآخر هي ألا ننتبه للون عينيه. فعندما نلاحظ لون العينين، لا نكون في علاقة اجتماعية مع الآخر". قد يحدث أحيانا أن نجد صعوبة في النظر إلى شخص ما "مباشرة في عينيه"، كما تقول العبارة الفرنسية، لأن هناك شيئا فيه يزعجنا أو لا يمكننا تحمله. لنستحضر المحكوم عليهم بالإعدام، أولئك الذين لا ينبغي للجلاد أن يرى وجوههم، أو أولئك القتلة الذين يخفون عيون ضحاياهم بربطها، أو الأقرب إلينا، أولئك المتسولين الذين نعطيهم الصدقة دون أن ننظر إليهم، أو بالكاد ننظر، لأن تصرفنا البسيط "يخجل" أمام بؤسهم.

 

إلا أن الوجه، مع ذلك، ليس شيئا يُرى ويظهر ويعبر ويتكلم فحسب، ليس أداة وصل وتواصل، وإنما هو علاقة مواجهة بين الآخر وبيني الوجه المرئي كما يرى ليفيناس موجه إليّ، حتى وإن كان فيه نوع من الإزعاج في بعض الأحيان، إلا أنني لا يمكنني التخلي عنه. وجه الشخص الآخر هو شيء غريب يأتي نحوي، يفرض نفسه من الخارج ليزعجني، ويخلف "أثره" Trace بشكل نهائي، وهو أثر غير مرئي ولكنه لا يمحى بداخلي. يطلق ليفيناس على هذا الأثر "أثر الأخلاق"، إنها أخلاق بداخلي، أخلاق لا تأتي مني، ولا من وحي من الأعلى، ولا من تعليم تاريخي وتقليد معروف، هذا الأثر الأخلاقي يُفرض علي من قِبَل الآخر وعبر وجهه. أليس الوجه هو ما لا يمكن الوصول إليه، حتى وإن كان حاضرا، حقيقيا، وموجودا في العالم مثلي؟ ربما لأنه يمثل ما لست عليه، ويعكس لي اختلافه؟

حالة نداء

إذا تخلصت الأنا من كل نظرة نرجسية تسعى لأن تتملك الآخر فلا تجعل منه مجرد "موضوع"، فإن هذا يصبح مصدر زعزعة "الأنانية ذاتها في الأنا"، وحينئذ "لا يظهر الآخر إلا في حالة نداء". فنظرة الآخر هي التي تجعلكَ تعي ما أنت عليه. كوجيطو ليفيناس يمر عبر الآخر. فتحرر الذات من نفسها لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الآخر. في اللقاء مع الآخر، يبدو الأمر كما لو أن الذات تجد نفسها مضطربة في هدوئها، ذلك الهدوء الذي كانت تعتقد أنه مضمون، وأنه يحقق العودة إلى "الذات نفسها". الوجه هو مطلب الآخر الذي يطرد الذات من راحتها الهادئة، ويوقظها من سباتها الأنطولوجي. إنه أثر الحركة الأخلاقية، التي تخرج الشيء نفسه وتوجهه نحو الآخر. الوجه لا يشير بعلامة، بل يترك أثرا، أثرا يجعلنا نرى الآخر خلف مظهره، أثرا يشبه الفتحة في أعماق الوجود.
 
الآخر يسائلني ويضع ذاتي موضع سؤال، فيمنع الأنا من أن تقتصر على نفسها في إدراكها لذاتها، فأنا أتحدد بالكيفية التي أستجيب بها للآخر نداء الآخر في عري وجهه هو عنف، إنه عنف "من أجل الآخر" الذي يدعوني بلا رجعة، والذي يجعلني "أتغافل" عن نفسي وأتناساها، كما يقول ليفيناس. الآخر يخرجني من ذاتي، و"يقتل" نرجسيتي. وهكذا تصبح الأخلاقية أولوية في علاقتي بالعالم. الوجه يتحدث ويأمرني. إنها مسؤولية تقع على عاتقي وتجعلني أظهر كذات فريدة. في المسؤولية تجاه الآخر، أكون غير قابل للاستبدال. من خلال الآخر، أتحقق كموضوع حر، لأن هذه المسؤولية تقع على عاتقي، ويمكنني الاستجابة إليها أو عدم الاستجابة. في كتاب "إنسانية الإنسان الآخر"، يعبر ليفيناس عن ذلك بقوله: "الوجه يفرض نفسه علي دون أن أستطيع أن أظل بلا استجابة تجاه ندائه، أو أن أنساه، أعني دون أن أستطيع التوقف عن أن أكون مسؤولا عن بؤسه".
 
الآخر والحدود
نعلم أن ليفيناس قد قلب الموقف الكانطي رأسا على عقب، وجعل مهمة الأخلاق ليست هي أن يصبح المرء، بفضل عقله، مصدر القواعد الأخلاقية. الأخلاق لا تتولد، على العكس من ذلك، إلا عن لقاء الآخر. مصدر الأخلاق خارجي، يأتي من الآخر، ولا ينبع من الذات. فأنا لست مصدر قراراتي. الآخر يرسم لي حدودا، علاقتي به ليست مسألة إدراك حسي أو معرفة فحسب، إنها علاقة أنطولوجية، الآخر يسائلني ويضع ذاتي موضع سؤال، فيمنع الأنا من أن اقتصر على نفسها في إدراكها لذاتها، فأنا أتحدد بالكيفية التي أستجيب بها للآخر. بهذا المعنى لا بد للكوجيتو أن يمر عبر الآخر، في هذا السياق يقول ليفيناس بأن "الذاتية هي تلقي الآخر". فأن أكون "أنا" وذاتا، لا يعني التحدث باسم "أنا" من نوع جيد، باسم ضمير شخصي أول يتميز بفرادته، أن أكون ذاتي أمام الآخر يعني أن أستجيب بالقول: "ها أنا ذا"، يستعمل ليفيناس اللفظ العبري للعهد القديم Hinéni القريب من العربية، وكلمة "أنا" في "ها أنا ذا" تسمي مسؤوليتي، كأن هذه "الأنا" توجه "ذاتي" نحو الآخر، وهذا بالضبط ما سبق للشاعر رامبو أن عبر عنه: "الأنا آخر".
 

عن مجلة "المجلة"