العمراني: النظام الدستوري الفرنسي.. منزلة بين المنزلتين يؤكدها اختيار بارنيي رئيسا للوزراء

العمراني: النظام الدستوري الفرنسي.. منزلة بين المنزلتين يؤكدها اختيار بارنيي رئيسا للوزراء عبد الرحمان العمراني
اخيرا تم اختيار ميشيل بارنيي، رئيسا للوزراء، في فرنسا دستوريا ليس في المسألة ما يدعو للاستغراب ولا حتى  للقلق الزائد ، مادام الموقع الدستوري ووزن وحجم المنصب في فرنسا،  لا يؤهل صاحبه لممارسة حكم فعلي أو حتى صلاحيات واسعة، كما هو الحال في النظم البرلمانية، بالمعنى المتعارف عليه في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية المعاصرة،  حيث مؤسسة الوزير الأول هي مناط السلطة التنفيذية الحقيقية  كما أنهاـ مع البرلمان، تشكل بؤرة  الفعل السياسي وصناعة القرارات المصيرية (نموذج النظام البرلماني البريطاني مثلا ).

في فرنسا مؤسسة الوزير الأول هي في العمق مؤسسة مساعدة للرئيس، ولذلك فشلت بشكل واضح ومتكرر تجارب التعايش cohabitation على عهد الرئيسين ميتران وشيراك، وبقيت مؤسسة الرئيس هي المالكة لزمام المبادرة والمتحكمة الفعلية في دفة الحكم والتوجيه الاستراتيجي، إن على مستوى الاختيارات الداخلية الحاسمة، أو على مستوى السياسة الخارجية وإن تغيرت بعض القوانين أو تبدلت بعض صيغ التصريف.

الصراع حول المنصب من طرف الفرقاء السياسيين المتنافسين، حينما لا تفرز الانتخابات أغلبية واضحة، يبقى صراعا رمزيا لإثبات الجدارة السياسية وليس لاحتلال موقع دستوري حاسم كما هو الشأن في النظم البرلمانية، مثلما أشرنا.

والحقيقة أن المتنافسين أنفسهم يعرفون ذلك وواعون بتبعاته، وأن صرحوا بعكسه إعلاميا في لقاءاتهم الحزبية او الجماهيرية.

وأنا أتابع ملابسات الحدث عبر وسائل الإعلام الفرنسية تذكرت عميد الدستوريين العرب، أستاذ القانون الدستوري بجامعتي الرباط ودمشق لأكثر من ثلاثين سنة، الاستاذ الفقيه الدستوري المرحوم مصطفى البارودي. أستاذنا في هذه المادة مطلع السبعينيات بكلية الحقوق بالرباط.

  كانت محاضراته المدونة في مؤلفه الذي مازلت احتفظ بنسخة مجلدة منه "الوسيط في الحقوق الدستورية "(أزيد من خمسمائة صفحة) إبحارا معرفيا رائعا لا فقط في القانون الدستوري بل أيضا في تاريخ الفكر السياسي وتاريخ النظم السياسية المقارنة .

وإن أنس لا يمكن أن أنسى ذلك التوصيف الذي كان يمتاز به في إبراز الفروقات الجوهرية بين النظم البرلمانية (نموذج بريطانيا )  والنظم الرئاسية ،(نموذج الولايات المتحدة الامريكية  )، و كان رحمه الله يفيض في شرح هندسة العلاقات بين الجهازين التنفيذي والتشريعي في كلا النظامين الدستوريين ونمط وأشكال فصل السلط في كليهما مما مازال عالقا بالوضوح الكامل في ذهني .

واذكر أيضا وأنا أستحلب الذاكرة أنه، رحمه الله، حينما أنهى في ذلك الدرس المسائي ذات يوم بالمدرج الكبير تحليل وتوصيف النظام الدستوري الفرنسي قال في تعليق حاد مازال يرن في وعيي الحقوقي: اسمعوا جيدا،النظام الدستوري الفرنسي صورة منقوصة ومتذبذبة و غير متسقة  وأكاد اقول هجينة وغير عادية بالمرة مقارنة سواء بالنظم البرلمانية  أو بالنظم الرئاسية .
 
والحقيقة فيما نرى ونسمع ونقارن،أن الفقيه الدستوري الدمشقي الواسع المعرفة كان على حق  في هذا الاستنتاج، وما سنراه من تفاعلات في الساحة الفرنسية خلال الاسابيع القادمة قد يشفي الغليل السياسي،  من حيث الخطابات و المقولات وتحركات الأحزاب  أو التحالفات الغاضبة منها لاختيار  بارنيي للمنصب من طرف الرئيس ماكرون  (جبهة اليسار بقيادة السيد ميلانشون ) أو تلك المهللة  له من كشكول اليمين، ولكنه لن يغير في المعادلة الدستورية، ولا في كون النظام الدستوري الفرنسي سيبقى يجر هاته  السمة  التكوينية الأولى،  التي يجعله لا يستقيم على الصعيد المؤسساتي  إلا  اذا حملت التشريعيات والرئاسيات نفس الأغلبيات السياسية. وهو ما ليس حاصلا الآن بالطبع.