رغم ضغط الوقت وكثرة الالتزامات وبدافع حب السينما والرغبة في الاستكشاف وبعيدا عن أي مواقف مسبقة، تابعت باهتمام شديد أمس في مسكني الريفي الفليم الهندي راع الغنم ( هكذا اسميه انا بدل حياة الماعز)...لا أدعي أنني ناقد سينمائي ولست من محترفي النقد الفني بشكل عام، لكنني خرجت ببعض الملاحظات عن الفيلم، بودي مشاركتكم إياها.
1 من ناحية الإبداع الفني، الفيلم ممتع ومثير وفيه من التشويق ما يشد الأنفاس..فعلا السينما الهندية تطورت كثيرا من حيث الصناعة والاحتراف حتى وإن ظلت وفية لتيمتها العاطفية. فعلى هذا المستوى، أقر بأن الفيلم جدير فعلا بالمشاهدة لعدة أسباب : تصوير رفيع المستوى، رؤية إبداعية في أكثر من زاوية، تركيب موسيقى جيد، آداء احترافي ولعب فني بلا أخطاء (او على الاقل أخطاء بسيطة وغير مؤثرة)، تماهي كبير مع الشخصيات، مؤثرات فنية غاية في الإتقان ، مناظر طبيعية آخاذة ومنسجمة مع البناء الدرامي لتطور الاحداث، باختصار، تحفة فنية تحوي كل مكونات الإبداع السينمائي من حيث الفرجة والابهار.
2 من ناحية الموضوع، حاول الفيلم أن يكون وفيا لوقائع قصة واقعية عاشها مواطن هندي مع قضية " الكفيل" المميزة للمجتمع الخليجي و عبرها تناول مشكل العمالة المهاجرة وما تعانيه من آلام وتعسفات، ولا سيما إن كان مؤهلها الوحيد هو قوتها العضلية. أعتقد ان الفيلم نجح في توضيح الصورة وتبليغ الرسالة ولكنه بالغ في بعض من هوامشها على نحو ساوضحه فيما يتبع.
3 قضية " الكفيل" مسألة معروفة ومشكل مطروح، وهي بذاتها، لا تحظى بتأييد جميع مكونات المجتمع الخليجي (السعودي على الخصوص) وقد حاولت الوقوف ضدها بعض المنظمات الحقوقية في السعودية ذاتها..لكن الظاهرة مازالت حاضرة كواحدة من الإنحرافات التي تعيشها هذه المجتمعات وككل المجتمعات التي تواجه انحرافات هي الأخرى، قد تكون مشابهة او مختلفة، ..وقد عشنا في بلادنا وقائع متعددة لحالات اشخاص كانوا ضحايا لمثل القصة التي تناولها الفيلم ولكن بشكل مختلف (قضية الخادمات مثلا).
4 طبعا لا يفهم من قولي أني أدافع على اي " كفيل" يحن لزمن الاسترقاق والاستعباد، وقد سبق أن نددنا مرارا بكل الحالات التي وثقتها الصور عند هذا الواقع، سواء في دول الخليج او في غيرها، بل حتى في الهند ذاتها...لكن التعاطي مع حالة إجرامية، كان ضحيتها شخص تم استغلاله ابشع استغلال، لا تعني اطلاقا تمطيط هذه الحالة لتشمل المجتمعات الخليجية برمتها.
5 في الفيلم رأينا مشاهد متناقضة، ربما كان المخرج يقصدها بذاتها، ولكن قراءتنا الموضوعية للفيلم، تجبرنا على أخذها بعين الاعتبار وقراءة تناقضاتها بواقعية، مثلا، عندما كان البطل على وشكل الهلاك، ورمت به الأقدار إلى الطريق المعبد، التقى بشخصيات مختلفة، منها التي نهرته ولم تلتفت لمأساته وهو في عرض صحراء قاحلة، يتضور جوعا و يقتله العطش. فهذه الشخصيات، لا تقل، في نظري، جرما ولا قسوة عن الكفيل ذاته، لا سيما بعدما تجاوزته ومضت في طريقها غير مكترثة به، ثم هناك شخصية ذلك الرجل النبيل، الذي اختاره المخرج ان يكون ذا شكل وديع ولطيف، وعلامات اليسر والغنى بادية عليه، من خلال السيارة الفارهة التي يركبها، لكن إنسانيته، أبت عليه، أن يتجاوز هذا الإنسان الشبح، بل وقف ونزل من سيارته، ثم أسنده على كتفه، وساعده إلى أن ادخله السيارة غير مكترث بحجم الوساخة التي ستطال المقاعد الخلفية، بل سيقول له بكل شياكة ولباقة : " لا تهتم، سأنظفها بعد حين"، والأجمل انه كان يناديه ب "أخي"، وقد حمله إلى أن أوصله مأمنه وسط المدينة...الرسالة الواضحة هي انه ليس كل المجتمع على ملة الكفالة هذه، والناس معادن...
6 شيء آخر ، أغضبني في الفيلم، هو إصرار السيناريست والمخرج، على ذكر "العرب" وعلى نسب هذه الجرائم إلى نسلهم، وهذا فيه إجحاف كبير واعتداء سافر على قومية تستوطن جغرافية كبيرة تمتد من المحيط إلى الخليج، فنحن في عالم اليوم، نتكلم عن الدولة القطرية ولا نتكلم عن العصبة القومية، وكان على المخرج ان يكون أكثر جرأة في نسب الوقائع إلى البلد الذي جرت فيه الأحداث، بدل هذا التعميم المجحف.
7 حتى لو كان الفيلم يقصد بلدا بذاته ، وهو المملكة العربية السعودية، فكان من المفروض تناول الواقعة في مجال محدود، منحصر فيمن قام بالفعل ومن وقع عليه الفعل فقط...وليس متكئا لإصدار الأحكام على المجتمع السعودي، بله العربية كله، وإلا فما فائدة مشهد الرجل الغني الطيب الذي أنقذ البطل في تسلسل الأحداث، إلا لتصحيح الصورة لدى المشاهد.
8 في آخر مشاهد الفيلم تتضح الرؤية ويرتفع اللبس، فعندما نجا البطل، وبدأ يحلم بالحرية والانعتاق، كان على وشك الرجوع الى العبودية من جديد، عندما افترض رجال الأمن، بسبب انعدام اي اوراق ثبوتية لديه، أنه واحد من الفارين من نظام الكفالة، وبالتالي ضرورة إخضاعه إلى مسطرة أخرى، يعرض فيها أمثاله من المنعدمي للهوية، على جماعة "الكفلاء"، لربما يتعرف واحد من هؤلاء على "عبده" الفار من خدمته، فيعيده إلى الخدمة ومن تم تتكرر المأساة من جديد، هذا هو المبدأ كما صوره الفيلم، لكن ما سيقع للبطل مختلف، إذ أن كفيله، ولو انه تعرف عليه، فقد تظاهر بعكس ذلك، وأومأ له متوعدا وهو يهمس في أذنيه: "كنت اتمنى ان اذيقك من نفس الكأس ولكن مع الاسف أفلت من قبضتي"، لماذا أفلت يا ترى؟! لأنه وبكل بساطة، كان كفيلا مزورا ، او بصحيح العبارة مجرد لص، ادعى منذ البداية أنه كفيل البطل، وبالتالي اختطفه تحايلا، ليسخره في رعي الاغنام والجمال ، ولكنه في الأصل ليس هو كفيله الحقيقي، وحتى لا ينفضح أمره كلص، تظاهر بعدم التعرف عليه، وهكذا كتبت للبطل النجاة، لكن رسالة الفيلم واضحة، ان غالبية هؤلاء الكفلاء هم لصوص ومرتزقة ومتاجرين في البشر، والبعض منهم مرضى نفسانيين، بدليل أن كل من تعرف على "مكفوله" الهارب ينهال عليه بالضرب والركب والرفس في صورة اقل ما يقال عنها أنها من اعمال الحيوان وبعيدة عن كل حس آدمي...هم لصوص ومجرمون يقومون بما يقوم به اي مجرم..في أي مكان وفي أي زمان...ومكانهم الطبيعي إما السجون او مستشفيات الأمراض العقلية.
9 اتفق مع المخرج عندما توقف عند هذه النقطة، لتوجيه رسائل حقوقية إلى سلطة البلد الذي شهد مسرح الاحداث، أولها فضاضة الاسلوب الذي يتعامل به رجال الأمن وغلظتهم، ثانيها عدم الاستماع إلى معاناة الهاربين وإنصافهم ثم إرجاعهم إلى بلدانهم وليس إلى كفلاءهم ليمعنوا في تعذيبهم..ثالثا: ما دور السفارات إذا لم تكن تقوم بواجبها في رعاية مصالحه مواطنيها المهاجرين...اقول هذا من منطلق أن الفيلم يرتكز على احداث واقعية وليست متخيلة.
10 من الافلام الخالدة في ذهني فيلم الفارس رقم 13 الذي من بطولة الممثل العالمي " أنطونيو بنديراس" والذي جسد فيه دور فارس عربي مسلم، لكن الفرق ان فيلم راعي الغنم صور العربي كشخص همجي، رائحته كريهة، يشرب الحليب بشراهة وهو يتدفق على صدره ويتقاطر على لحيته ويمسح قطراته الملتصقة على ذقنه بيده المتسخة، وغير من كليشيهات موغلة في تصوير "قذارة" الإنسان العربي!؟...وبالمقابل...صور فيلم الفارس 13، العربي، في مجتمع الفايكينك، شخصية متحضرة، راقية، أنيقة، نظيفة ومتأففة من كل قدارة وفضلا عن ذلك، شجاعة ومقدامة...صورتان على النقيض تماما، تؤكد أن نظرة الآخر للعربي مازالت ملتبسة، متناقضة، غير متوافق عليها، إن لم نقل متحامل عليها.
11 باختصار قضية فيلم راعي الغنم، تعالج قضية استغلال الإنسان اينما وجد...وليس بالضرورة اعتبارها صفة ملازمة لمجتمع بعينه.. ففي كل مجتمع توجد نماذج من هذه الإنحرافات ولكن من الإجحاف إلصاقها به حصريا...فالإجرام لا ملة له، والمسار الطبيعي للمجرمين هو السجن...اعتقد ان هذه هي الرسالة الحقيقية للفيلم وهكذا يجب فهم مضمونه.
12 للإنصاف الفيلم قدم ايضا صورة ناصعة عن الإنسان المسلم (وليس العربي) وهو يقدم حياة الافريقي، المطمئن لقضاء الله، الراضي بقدره، المطمئن لإيمانه، التمسك برجاءه، الملتزم بأخلاقه، والمضحي بحياته من اجل الآخر...لاتنسى ان الفيلم واقعي الأحداث، لذا فانا لا املك إلا الترحم على هذه النفس الزكية المعطاء، التي فهمت الإسلام ومثلته أحسن تفسير.
أخيرا.. فالفيلم لا يخلو من التذكير بقيمة الأخلاق و بأن هناك أشياء ارفع من المال في هذه الحياة، أشياء مثل الحب والدفء الأسري والقناعة وغيره...هذه القيم ذكر بها الفيلم من خلال الاسترجاعات المتكررة للبطل / العبد الاسير، ولكنه وهو في احضان اسرته، مع امه حبيبته، وفي فضاءات كأنها الجنان.. فم الذي كان يدفعه إلى رمي نفسه في أحضان المجهول، غير الرغبة العمياء في جمع المال، حتى وإن كانت مسالكها تعج بالإغراءاته المضللة.
رشيد لبكر، أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بالجديدة