لما اطلعت على كلمة للكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم المنضوية في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حول مشاركة البعض من طاقم التعليم في الإحصاء السكاني، وجدتها كلمة مبنية على منهجية تربط بين الأسباب والنتائج، ويطبعها الهدوء وعدم الانجرار إلى لغة المس بأي شخص ماديا أو معنويا، رغم أن الصحافي حاول عدة مرات أن يجره إلى مجابهة سجالية مع رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
لهذا وضعت تعليقا على الفيديو ونشرته على جداري في هذه الصفحة وفي مجموعة اليسار المغربي.
تفاجأت في الغد ببعض التعليقات التي لم تفهم جيدا مغزى كلمة الكاتب العام للنقابة ولم تفهم تعليقي. فهناك تعليق على سبيل المثال يقول أن مكان الأستاذ هو القسم. هذا صحيح، لكن هل في كل الأحوال؟ ألا يمكن للأستاذ أن يشارك في إحصاء ساكنة المغرب في توقيت آخر غير التوقيت الذي اختارته الجهة المنظمة كما جرى أول إحصاء بعد الاستقلال أي في العطلة الصيفية لسنة 1960 والذي سأحكي عنه قليلا، لأني شاركت فيه كما سأحكي عن إحصاء 1971 وما جرى فيه.
كما قيل في التعليقات أن آلاف الأساتذة المشاركين في الإحصاء معناه أتوماتيكيا نفس عدد الأقسام التي ستغلق في وجه التلاميذ، في حين أن الأمر لو تم التعرف عادة على كيفية اختيار المشاركين، وعلى التدابير التي يتخذها المدير والأكاديمية لما خلص إلى هذه النتيجة.
نسبة مشاركة فئات معينة في الإحصاء قرار سياسي تتخذه الجهة المنظمة منذ الثمانينات أما قبلها فكانت الداخلية فقط، إلى جانب هذه النسبة تنزل (بتشديد الزاي) المتطلبات على مناطق المغرب بحيث لا يمكن أن نجد أن جميع أساتذة مدرسة ما في منطقة ما مشاركين في الإحصاء، يمكن أن نجد واحدا أو إثنان.
هذه بعض أمثلة التعاليق، هناك تعاليق أخرى لا يعرف لغة الحوار بل فقط المس بالشخص واللجوء إلى الشتم مثل من قال لي: "الله يمسخك" أمثال هؤلاء لن أرد عليهم بشيء. لأنه لا يمكن أن تقنع النحل بالذهاب إلى القمامة ولا أن تقنع مهما فعلت الذباب بالذهاب إلى القاذورات.
لماذا مشاركة طواقم التعليم في عملية الإحصاء مهمة جدا؟ وبهذا أعود إلى مشاركة في إحصاء 1960..
قبل الاستقلال جرت بعض عمليات الإحصاء الجزئية أثناء الاستعمار أما الشامل فقد جرى في 1952 وذلك تحت إشراف طواقم إدارية وعسكرية فرنسية، وقيل عنها كلها من طرف الحركة الوطنية أنها فاسدة لأن الاستعمار كان يسعى من خلالها إلى تضخيم عدد السكان رغم المجاعات الكبرى والأمراض الفتاكة في جل مناطق المغرب.
إحصاء 1960 تقرر من الدولة أن تشرف عليه الداخلية، وقد استعانت بأكبر نسبة غالبة من التلاميذ والباقي أعوان السلطة وكتابها في المقاطعات الإدارية والاستعانة حتى ببعض رجال الأمن من الدوائر الأمنية بلباس مدني.
أنا كنت في سن 15 سنة وأسكن في حي بنمسيك تفاجأت لما اتصل بي المقدم، وقال لي إننا اخترناك لتقوم بالإحصاء في جزء من بنمسيك وجزء من سباتة وعليك غدا أن تأتي إلى "دار الخليفة" ليشرح لك الشيخ المسألة.
كانت المقابلة مع الشيخ عادية إلا في شيئين، الأول لما تكلم معي عن أجري لم يحدد لي قدره وأنا خجلت من أن أسأله، الثاني لما قلت له يجب أن تعطيني الدفاتر من الآن لكي أسطرها حسب هذه المعطيات التي سلمتها لي، قال لي: "دبر على الدفاتر راه حنا غادي نخلصوك في كل شيء".
لما انتهى الإحصاء وأنا جد فرح لأني سآخذ أول أجر لي عن عمل وأنا في سن 15 سنة، سلمت الدفاتر وكان مجموعها 40 دفترا، طلبت أجري من المقدم، قال نعم تعالى وأخذني إلى مستودع توضع فيه مساعدات التعاون الوطني، أخذ قرعة زيت خمس لترات، ووضعها جنب كيس دقيق اعتقد 25 كيلو وقال لي هذا أجرك، قلت له لن آخذه، هو قليل وهذا ديال التعاون الوطني، قال ما بغيتش؟ إذن اخرج.
اشتكيت بالشيخ والمقدم عند القايد ولم ينصفني، فاشتكيت بالجميع عند العامل، قال لي أنت صغير السن، القانون لا يسمح بتشغيلك ولا يمكن أن يكون عندك أجر، سأتكلم مع القايد أن يزيدك من الزيت والدقيق قلت لن آخذ مساعدات التعاون الوطني، نظر إلي مليا وقال: إذن في آخر الشهر آت عندي أعطيك شي حاجة من أجري. لما أخبرت الوالد بما جرى لي وكان قد نصحني بأن أقضي عطلة الصيف في مسقط الرأس بالجنوب، سألني، ماذا ستفعل هل ستذهب إليه في آخر الشهر؟ قلت لا، لن أشارك أبدا في أي إحصاء.
بعد سنوات قرأت عدة كتابات نقدية لذلك الإحصاء، يمكن إجمالها في وقوع أخطاء كثيرة وعدم إنجاز بعض الخانات كاملة أو جزئيا.
احصاء 1971 أشرف عليه كديرة وأوفقير وانتقد هو الآخر، لما شابه من تدخل في تحريف معطيات حقيقية كنفخ في فئات معينة وتقزيم أخرى.
الحركة التقدمية المغربية عانت طويلا من استيلاء الداخلية على عملية الاحصاء من ألفه إلى يائه. وإذا كان للانفتاح الذي تم في ما بعد 1975 من بعض إيجابيات فإن من ضمنه إشراك أطقم التعليم فيه، وتكليف جهة مختصة بوضع معايير وأهداف محددة له وبالتالي الإشراف عليه قبل إجرائه وأثناءه وبعده.
لهذا ليس العيب في مشاركة أطقم التعليم في الإحصاء فهي مشاركة إيجابية للمجتمع، بل العيب هو في التقاعس عن الإعداد له حتى حل الموسم الدراسي ومن لم يستوعب هذا، بأن يرتب عليه توجيه سهام نقده للجهة المشرفة، لا يمكن اقناعه بأي منطق كيفما كان، لقد كان إشراك التعليم في عملية الإحصاء مطلبا تقدميا ضد إشراف الداخلية حتى في زمان الرصاص كما يقال، ولم يتم اللجوء إلى أي شيء ينم عن نية إفشال الاحصاء، لأن هذا الأخير شيء مهم ليس للدولة فحسب، بل لكل المجتمع بكل أوساطه من نقابات وأحزاب وجمعيات، وحتى لأوساط المال والأعمال داخل المغرب وخارجه.