ظل الاهتمام بالثقافة الشعبية المغربية مهملا ومستبعدا من دائرة انشغالات الباحثين أمدا طويلا. يعود ذلك في، رأيي، إلى عاملين، يرتبط أولهما بالاستعمار الذي كان يستغل التدين والممارسات المختلفة المتصلة بالعادات والتقاليد الشعبية لمواجهة اللغة العربية الكتابية والثقافة العالمة اللتين كان ينكر وجودهما بقصد فرض لغته وثقافته. أما العامل الثاني فيتصل بالاستقلال حيث كان يتم استغلال الأهازيج والثقافة الشعبية لأغراض سياسية، فكان اختزال الثقافة الشعبية، لدى بعض المثقفين، في مفهوم «الفولكلور» باعتباره تعبيرا ثقافيا منحطا. ولعل فن العيطة عانى أكثر من غيره، ليس فقط من الإهمال والتهميش، بل أيضا من النظرة التحقيرية التي لحقت به جراء انتقال بعض الفرق الموسيقية من البادية إلى المدينة بعد الاستقلال لتنشيط محلات الملاهي، في شواطئ عين الذئاب. وطبيعي أن تشيع الميوعة في هذه الفضاءات، فتلتصق بالعيطة نعوت سلبية وقدحية.
مع الزمن بدأت تتغير هذه الصورة إلى الثقافة الشعبية بالتدريج، وكان أن استرجعت العيطة أهم مميزاتها وخصائصها التي كانت محملة بها قبل استغلالها في الأماكن الخاصة. فبدأت تظهر دراسات وأبحاث يحتل الريادة فيها كتاب حسن نجمي حول «فن العيطة» الذي بذل فيه مجهودا كبيرا في الكشف عن أشكالها ومحتوياتها وتاريخها. وخلال العقدين الأخيرين بدأت تظهر فرق موسيقية شابة وواعية أعادت للعيطة كامل حللها وجماليتها الإيقاعية واللغوية. كما أن بعض الأجانب تفاعلوا معها فأنجزوا دراسات علمية موسيقية كشفت عن خصوصيتها، وأبرزت قيمتها التي ظلت متوارية ومهمشة.
العيطة كما تدل على ذلك الكلمة تعني النداء بصوت مرتفع لإثارة الانتباه. وطبيعي في هذه الحالة أن يمتد الصوت ويتمطط لبلوغه إلى المخاطب، مصحوبا بإيقاع خاص يتضمن نبرات متميزة. إنها غناء الفلاح والراعي، والمرأة القروية وهي تقوم بواجباتها اليومية، والذي يعبر من خلاله عن الآلام والأحلام. فكان ان تنوعت أنواعها، وأغراضها، فانتقلت من التعبير اليومي إلى الأداء الموسيقي الذي يختص به الشيوخ الذي يتفننون في تطويره لغة وموسيقى.
يختلف غناء العيطة بسبب أصوله القروية عن فني الملحون والطرب الأندلسي والغرناطي المتصلين بالمدن العتيقة. ولما كانت البادية المغربية هي الأصل، والأكثر شساعة، تنوع فن العيطة وتعدد بتعدد الفضاءات وثقافة البيئات الخاصة. أشبه غناء العيطة بـ«الطعام الشعبي المغربي» (الكسكس). فهو متعدد ومتنوع حسب الجغرافيا المغربية إذ تتدخل في إعداده مكونات البيئات الفلاحية والرعوية المختلفة، وما هو مهيمن فيها. فبعضها ينتشر فيها القمح، وأخرى الذرة أو الشعير. كما أن أنواع الخضر تختلف باختلاف التربة والمناخ. فتشتهر بعض المناطق ببعض الخضروات أو اللحوم الموجودة فيها. مثلا الكسكس في بعض المدن الساحلية (آسفي) يُعدُّ بالسمك، في حين في السهول باللحوم (الغنمي أو البقري)، وفي الجبال (الماعز).
هذا التنوع والتعدد ينطبع في أداء العيطة فنجدنا أمام أشكال متعددة حسب تلك البيئات: المرساوي (الدار البيضاء والشاوية)، الزعري (زعير) الحسناوي (الغرب)، الحصبة (عبدة)، والحوزي (الرحامنة وحوز مراكش)، الطقطوقة الجبلية (جبالة)، البلدي (تافيلالت)…
تشترك كل هذه الأشكال في التعبير عن معاناة الإنسان الشعبي وآماله وطموحاته، ومعايشته لواقعه في تحولاته المختلفة (الصراعات بين القبائل، الهجرات، الأوبئة). لكل ذلك تعددت الموضوعات التي تتصل بما هو يومي وتاريخي وديني ووطني. ويبدو لنا ذلك في كون الكثير من مقتطفات العيطة صارت جزءا من اللغة اليومية، فتقدم على شكل أمثال تضرب للدلالة على ما يهم الإنسان في حياته من باب الإمتاع وتحصيل العبرة والفائدة.
إن هذا التنوع والتعدد في غناء العيطة يعطيها خصوصية تتصل ببيئتها التي لا يمكن أن يتفاعل معها التفاعل الإيجابي إلا من عاش في نطاقها. لذلك يصعب على من لم يعايش تلك البيئات أن يفهمها جيدا في خصوصيتها، وهي تتأسس على علامات محلية (فضاءات، أحداث، شخصيات)، أو لغوية (مفردات، أصوات، حركات). قد يتجاوب المواطن العادي مع إيقاعاتها، وطرق أدائها، وينفعل معها. لكن بالنسبة للباحث إذا لم يكن متصلا بوثوق بتلك البيئات فلا يمكنه إلا أن يفشل في إنجاز أبحاث مفيدة ما لم يتمكن من العيش في تلك البيئات، والتعرف عليها بدقة.
ويبدو لي هذا من بين العوامل التي حالت دون الإقدام على الاهتمام بها والبحث فيها. إن الفنون ذات الأصل البدوي شديدة الخصوصية لأنها وليدة نمط خاص من الحياة. إنها شعبية بامتياز، بمعنى أن الكل يساهم فيها، ولذلك لا يمكننا نسبة أي قول إلى شخص محدد، أو ادعاء أن هذه هي العيطة الأصلية بلا زيادة ولا نقصان. بينما نجد الفنون المدينية على العكس تماما حيث يشترك كل سكانها في فهمها وعلى المستويات كافة. فنجد لقصيدة الملحون شاعرا، وراويا، وإيقاعا خاصا محددا تسير عليه. ولذلك أفلح محمد الفاسي وعباس الجراري في جمع الدواوين وطبعها، بل وضبط عروضها وأوزانها وإيقاعاتها. لكن هذا لم يتأت للعيطة وأنواع أخرى من الشعر والغناء الشعبي.
لا يمكن لدارس فن العيطة إلا أن يكون، أولا، عاشقا ومتذوقا لهذا الفن، وثانيا أن يكون قد عاش في إحدى تلك البيئات، وخبر أسرارها وخصوصيتها. وقليل من الباحثين المغاربة الذين تتوفر فيهم هذه الشروط. وفي غياب مأسسة الدراسات الشعبية المغربية، والتشجيع على البحث فيها لا يمكن تقديم دراسات مفيدة بخصوصها. هناك مجهودات تبذل في هذا السبيل، وبدون تضافر الجهود لا يمكن لتراثنا الشعبي إلا أن يظل بمنأى عن الدراسة والتطوير.
أثمن في هذا السياق ما حصل من تطور في الالتفات إلى التراث الشعبي المغربي، وتزايد دائرة المهتمين به. لقد أنجزت أنطولوجيات للملحون والطرب الأندلسي بهدف توثيق الذاكرة الغنائية والتعريف بها. وعلى غرارها أنجز الباحث إبراهيم المزند أنطولوجيا العيطة (2017). لقد بذل مجهودا أكاديميا وجماليا مهما في توثيق فن العيطة من خلال تقديم بعض النصوص، والتعريف ببعض الأنواع وبعض الشيوخ والشيخات. لقد جمع، في هذا المشروع، تسعا وعشرين فرقة موسيقية، أي ما يعادل مائتي شيخ وشيخة من مختلف مناطق المغرب. إنه مجهود مهم جدا في الالتفات إلى هذا النوع من التراث الشعبي الذي ما يزال قائما، ويتفاعل معه المغاربة باعتباره جزءا من ذاكرتهم الحية والتاريخية. وبعد إنجاز هذه الأنطولوجيا أعد الباحث أخرى خاصة بالروايس الذين يمثلون الذاكرة والأغنية الأمازيغية في سوس.
إن مثل هذه المجهودات الكبيرة والمفيدة يجب أن تتعدد، وتلامس أشكالا مختلفة من الذاكرة والتراث الشعبيين في مختلف المناطق المغربية. كما يجب على المؤسسات المختلفة، رسمية وجهوية، أن تسهم في هذا النوع من المشاريع. وعلى البحث الأكاديمي والجامعي أن يولي هذا النوع من التراث ما يستحق من العناية، ليس فقط لأنه مغربي الخصوصية، بل لأنه إرث إنساني أيضا.
لا يمكن لهذا النوع من المشاريع أن يوضع في رفوف المكتبات العامة أو الشخصية بهدف الاستهلاك فقط. إن مناقشتها والعمل على ترهينها وتطويرها مهمة ينبغي أن تتضافر الجهود للارتقاء بها إلى المستوى الأفضل. إن الاعتبارات الخاصة التي ركزت عليها في الاضطلاع بهذا النوع من المشاريع يفرض علينا أن نطرح أسئلة دقيقة مثل: ما هي العيطة؟ وهل فعلا «قصيدة»؟ وهل كانت خاصة بالنساء؟ وما هي طبيعة المتن الذي يمكننا تقديمه نموذجا؟ ما هي طبيعة البحث التأسيسي الذي يمكننا القيام به للتطوير والإغناء؟
أسئلة كثيرة تفرض نفسها لتجاوز عقود طويلة من التهميش والتغييب والازدراء.