الطيار: شواهد من مرتكزات العقيدة الأمنية العسكرية الجزائرية

الطيار: شواهد من مرتكزات العقيدة الأمنية العسكرية الجزائرية محمد الطيار والجنيرال شنقريحة
انطلقت منذ يوم الخميس 15 غشت 2024، مسرحية حملة الترويج لعبد المجيد تبون الذي تم اختياره من الجيش كرئيس للجزائر لولاية جديدة، حيث قام النظام العسكري بقبول ترشح شخصين فقط سيقومان بدور أرانب السباق. حيث أن نتيجة الصناديق ونسبة التصويت قد تم حسمها مسبقا وقبل يوم الاقتراع.
 
انطلاق الحملة الانتخابية، كان لابد فيها من استحضار نظرية المؤامرة التي تعد من صميم السياسة الجزائرية، من أجل خلق حالة من الاستنفار في أوساط الشعب الجزائري والرفع من درجة الخوف والترهيب، حيث تم تقديم شخص على شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي بوصفه إرهابيا ينتمي إلى حركة "الماك " القبايلية، وأنه تم إلقاء القبض عليه وهو يحاول ادإدخال الأسلحة إلى الجزائر من فرنسا، من أجل القيام بعمليات إرهابية داخل الجزائر.
 
يسيطر الجيش في الجزائر على دواليب السلطة منذ إعلان الدولة الجزائرية سنة 1962. ويتحكم الأمن العسكري في المشهد السياسي الداخلي منذ سنة 1992 بشكل مباشر، إثر فوز الأحزاب الاسلامية بالجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، حيث قام بالاستيلاء على السلطة بالعنف والترهيب بهدف الحيلولة دون فوز الاسلاميين بالجولة الثانية. وقد امتدت بعدها آثار ما أقدمت عليه المؤسسة الأمنية العسكرية طيلة العقود التالية لذلك الحدث، أخطرها ما عرف بمرحلة العشرية السوداء التي تعد منعطفا رهيبا في تاريخ الجزائر الحديث، ولازالت تداعياتها حاضرة بقوة الى اليوم.
 
تحكم النظام العسكري في دواليب السلطة. واختيار مدنيين تابعين له عن طريق انتخابات مزيفة لخلق مشهد سياسي مزيف، وخلق بيئة غير آمنة في محيط الجزائر الخارجي، و اعتماد الإرهاب والترهيب كأسلوب، وخنق الحريات داخليا، واعتماد نظرية المؤامرة لخلق حالة الاستنفار واحتواء الأزمات الداخلية، والرفع من منسوب الهواجس الأمنية، يدفعنا إلى بسط بعض المعطيات التي من شأنها الاقتراب أكثر من ملامح العقيدة الأمنية التي تمد الجهاز الأمني العسكري الجزائري بالخطوط العريضة لسياسته الداخلية والخارجية .
 
 
اعتماد الإرهاب والترهيب ضمن ثوابت العقيدة الأمنية الجزائرية
كتب السفير الأمريكي السابق في الجزائر روبرت فورد في برقية دبلوماسية في العام 2008، أن قيادة الجزائر كناية عن "مجموعة من الأشخاص حادّي الطباع والمصابين بجنون الارتياب". الصورة التي قدمها الدبلوماسي الأمريكي تقدم الأساس الذي بنيت عليه عقيدة أمنية تمد الفاعلين الأمنيين في الدولة بإطار نظري يسعى لتحقيق أهداف المؤسسة الأمنية التي تحكم الجزائر.
 
هذه العقيدة لها وجهان: الأول دعائي، يقوم حول تسويق فكرة تدعي أن الجزائر توجهها مبادئ عامة تستند على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وتستند الفكرة كذلك على ركائز قانونية ودستورية، تحدد الأدوار الأساسية للأجهزة الأمنية في حماية وصيانة السيادة الوطنية وحدودها.
 
أما الوجه الثاني فخلاف ذلك، فالعقيدة الأمنية تستند في حقيقتها على اعتبار الجيران أعداء مفترضين، يجب العمل على خلق مشاكل داخلية لهم حتى يمكن أن تضعفهم وتجعلهم يركزون على حل هذه المشاكل، ولا يستطيعون بناء بيئة أمنية صالحة للتنمية واستغلال الموارد الطبيعية. وهذه العقيدة تظهر كذلك بجلاء في تورط النظام الجزائري في خلق العديد من التوترات بكل من المغرب، تونس، ليبيا، مالي، وموريتانيا.
 
والملاحظ من خلال ما سجلته كتابات العديد من الضباط المنشقين عن جهاز المخابرات العسكرية الجزائرية - والذين لجأوا إلى الدول الأوربية ـ أنهم قد وثقوا بشكل مفصل ودقيق تورط جهاز المخابرات في إنشاء التنظيمات المتطرفة، خاصة التي ادعت مبايعتها لتنظيم القاعدة، أو قبل ذلك خلال فترة التسعينات إبان الحرب الأهلية، التي عاشتها الجزائر، أو ما يعرف بالعشرية السوداء. وكيفية صنع المجموعات الإرهابية في مكاتب المخابرات العسكرية الجزائرية وتنسيق عمليات الاغتيالات المتعددة.
 
وقد ذكر ضابط أمريكي كبير في قيادة "أفريكوم"، "إن الجزائر كقوة إقليمية متردّدة يصعب فهم تطلّعاتها وتصرّفاتها لأنها تختلف وفقاً لحجم القضية. إذ يمكن أن تكون البلاد في بعض الأحيان مفيدة جداً في دعم عمليات تبادل المعلومات والمراقبة الأميركية في منطقة الساحل، ولكنها غير متعاونة في أحيان أخرى، حيث تحجب بعض المعلومات الحيوية حول أنشطة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، ولاتفعل شيئاً يذكر لرصد ومراقبة خطوط الإمداد اللوجستي للجماعات المتطرّفة المسلحة في منطقة الساحل." انور بوخرص" الجزائر والصراع في مالي". منشورات مركز كارنيجي 23 أﻛﺗوﺑر 2012 .
 
كما أظهر الهجوم على "عين أميناس" سنة 2013، تقاعس الجزائر المتعمد في عدم مراقبة حدودها الجنوبية والسيطرة على الموارد التي تساعد مختلف الجماعات المسلحة على النمو والازدهار، فقطع الدعم القادم من الجنوب الجزائري لهذه الجماعات من شأنه إضعافها، غير أنه في إطار الدور المزدوج الذي تلعبه الجزائر، لم تقم بأي إجراء ملموس من شانه قطع الوسائل اللوجستيكية عن هذه التنظيمات.
 
وفي هذا الصدد نعود إلى ما ورد على لسان لحبيب سويدية، المظلي السابق في القوات الخاصة في كتابه "الحرب القذرة"، (ص 204-205 )،حيث يبين بجلاء ازدواجية الجنرالات في التعامل مع الإرهاب "إني مقتنع كما في السنين التي حاربت فيها الإرهاب بأن الجنرالات كانوا يلعبون لعبة مزدوجة، ففي حين كان بوسع القوات الخاصة التغلب بسهولة على المقاتلين الإسلاميين، منعوها من القيام بذلك بأوامرهم المتناقضة بحيث يتاح للإرهابيين الاستمرار في توجيه الضربات". هذه الازدواجية التي طبقت في المواجهات الدموية التي عرفتها الجزائر في عقد التسعينات وطيلة عشر سنوات، هي نفسها الازدواجية التي يتعامل بها النظام الجزائري مع الحركات الإرهابية المتواجدة على حدوده وفي شمال مالي، من أجل تحقيق أهداف أخرى.
 
ويقول كذلك لحبيب سويدية في كتابه المشار إليه أعلاه، ص 185: "الدور الحقيقي لـ "عملاء الاستخبارات المندسين بين الجماعات المسلحة هو دفعها إلى مزيد من المذابح والاعتداءات".
 
وهكذا فتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وفروعه في منطقة الساحل الافريقي، ليس إلا تجسيدا فعليا لجانب من جوانب العقيدة الأمنية العسكرية الجزائرية، حيث كان هدا التنظيم يتحرك في شمال مالي نحو ليبيا وتونس والنيجر ونيجريا وموريتانيا وبوركينا فاسو وكوديفوار، ويضرب هنا وهناك مستفيدا من الدعم اللوجستيكي القادم من الجنوب الجزائري بدون تدخل السلطات لمنع ذلك. و تتجسد هذه العقيدة بشكل حديث مع مولدوها المتمثل في التنظيم المستحدث بتاريخ 1 مارس2017 ، المسمى "نصرة الإسلام والمسلمين" بقيادة اياد غالي، الذي أصبح يشكل منصة لكل التنظيمات الجهادية المرتبطة بالأمن العسكري في منطقة الساحل الافريقي وشمال افريقيا.
 
 
اعتماد نظرية المؤامرة لخلق حالة الاستنفار واحتواء الأزمات الداخلية
يعتمد النظام العسكري الجزائري، كما هو حال جل الأنظمة العسكرية، على تسويق نظرية المؤامرة للشعب الجزائري، بإغراقه في مسرحيات عن تهديدات ومخاطر تحاك ضده من كل جانب، ما يجعل وجود العسكر في هرم السلطة ضرورة لا بد منها لحماية مكتسبات الوطن، ويكون بذلك النظام العسكري هو الضامن الوحيد للاستقرار والتصدي للمؤامرات التي تحاك ضد الجزائر في كل المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والرياضية وغيرها .
 
النظام الجزائري، بشقيه العسكري والمدني، يعتمد توظيف نظرية المؤامرة بشكل واسع ومستمر، حتى أصبحت هذه النظرية عملة رائجة في الجزائر، ويستعملها بشكل دائم لمواجهة الأزمات الداخلية أو كلما اقترب موعد الاستحقاقات الانتخابية، لصرف نظر الشعب الجزائري عن مشاكله الداخلية وعن الإخفاقات الخارجية والعزلة الإقليمية والدولية والتغطية على الفشل والارتباك الدبلوماسي في التعاطي مع تراجع نفوذ الجزائر افريقيا ودوليا.
 
 
الرفع من منسوب الهواجس الأمنية الخارجية:
تمتلك الجزائر حدودا جغرافية مع ستة دول إفریقیة على مسافة تقدر ب 6427 كلم (المغرب 1685 كلم، مالي 1376 كلم، لیبیا 982 كلم، تونس 965 كلم، النیجر 956 كلم، موریتانیا 463 كلم)، وهي حدود واسعة یصعب مراقبتها في ظل تراجع المنظومات الأمنیة والمؤسساتیة للدول التي سقطت أنظمتها بسب أحداث "الربيع العربي"، إلى جانب الفشل الذي تعانیه دولة مالي، بحیث أصبحت تشكل تهدیدا للدول المجاورة ومنها الجزائر التي تحولت إلى سوق مفتوحة ومنطقة عبور في نفس الوقت لمختلف الأنشطة المحظورة ، منها خاصة تصاعد وتيرة عمليات الهجرة غير الشرعية عبر المنافذ الحدودية مع دولتي مالي والنيجر، بسبب تنامي شبكات تهريب البشر إلى داخل التراب الجزائري خاصة بولاية تمنراست.
 
نتيجة لوضعية المخاطر والتهديدات المتعددة، وبسبب تنامي الهواجس الأمنية في الجزائر عند صناع القرار فيها، رفعت الحكومة من ميزانية الدفاع والتسلح والداخلية بشكل قياسي منذ سنة 2010 ، مما أثر سلبيا على وضعية البلد ألاقتصادية، و كانت له انعكاسات مباشرة على القطاعات التي تعتبر ضرورية للمواطنين، كقطاع التعلم والسكن والصحة والقطاع الصناعي والفلاحي وغیرها من القطاعات الأساسية للاقتصاد الجزائري.
 
الرفع من منسوب الهواجس الامنية المستمر عند صناع القرار في الجزائر بسبب المتغيرات الأمنية في محيطها الجغرافي، جعلها من الدول التي تتخبط في دوامة من الجدل بين موضوعي التنمية الاقتصادية والأولويات الأمنية، حيث أنها لم تستطيع السير بخطوات منسجمة في كلا المجالين، فقد انخرطت في استيراد الأسلحة بشكل كبير ، مع وضع مجالات التنمية الاقتصادية في مرتبة ثانوية أمام القضايا الأمنية والدفاعية، الأمر الذي عرضها للعديد من الاختلالات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والسياسية.
 
 
المحصلة: مستقبل غامض أمام الجزائر
الجزائر لن تكون بمنأى عن مختلف المخاطر والتهديدات الصادرة من منطقة الساحل الإفريقي ومن ليبيا وتونس ومن مخيمات تندوف، مما يجعلها مرشحة أكثر للإصابة بالعدوى وانتشار القلاقل والتعرض لتهديدات البلقنة، بحكم عدم قدرتها على مراقبة حدودها بالشكل المطلوب، وما يفرضه ذلك عليها من تكاليف مالية، وبحكم حضور قضية الحدود الموروثة عن فرنسا بقوة في السنوات الأخيرة. كما أن استمرار نزاع الصحراء المفتعل ضد المغرب والمطالب الإثنية للطوارق في منطقة الساحل الإفريقي وفي الجنوب الجزائري وليبيا، ومطالب شعب القبايل في الشمال، واستمرار تحكم النظام العسكري في دواليب السلطة، واختيار مدنيين تابعين له عن طريق انتخابات مزيفة لخلق مشهد سياسي مزيف، واعتماد الإرهاب والترهيب كأسلوب، وخنق الحريات داخليا، واعتماد نظرية المؤامرة لخلق حالة الاستنفار واحتواء الأزمات الداخلية، والرفع من منسوب الهواجس الأمنية الداخلية والخارجية، كلها عوامل تتربص لتخلق مناخا من عدم الاستقرار في الجزائر ويجعلها بالتالي عرضة لتهديدات البلقنة والتقسيم. وهو وضع من شأنه أن يجعل الأمن القومي لدول الجوار الإقليمي أمام تحديات متعددة بحكم الحدود المشتركة والروابط الاجتماعية.