أعتبر أن هذه المساهمة، في هذه الندوة ، مجرد شهادة ،أو في أبعد تقدير، أرضية للتفاعل مع تيمة الندوة، ومع باقي المتدخلين والمشاركين، وأنها غير مؤطرة ولا محاصرة نظريا، لافتقادي الصفة الأكاديمية لكوني غير مختص في المجال ، فأنا بالكاد كاتب رأي وقاص مغمور ، ومتتبع متواضع للشأن الثقافي . لكن هذا لن يعفيني بالضرورة من تتبع خط منهجي ناضم لهذا التدخل .
1 - مبدأ المشروعية :
وقد نعتبرها هنا المشروعية التاريخية بالنسبة لموضوع المكان و الذاكرة في المتخيل الإبداعي ، وهنا لن نجد ، أصدق وأوفى من متن الشعر الجاهلي كمرجع لاضفاء الشرعية على هذا الطرح / الفرضية، باعتبار أن الشعر يعرف وينعت بديوان العرب ، وأيضا لمكانة الشعر الجاهلي - مع تحفظي على التسمية والمصطلح - في المنجز الإبداعي العربي والإنساني . وهكذا نستنتج ،وبأدنى جهد في البحث ، أن الشاعر في القصيدة آنذاك - المعلقات كنموذج - ،كان يستحضر المكان ويقف على الأرسام والأطلال قبل الدخول في باقي عناصر الموضوع أو القصيدة ، من قبيلة وحبيبة وفراق ووصال وغيره.. ، فهكذا ، وفي البدء كان المكان وذاكرته حاضرة في الإبداع والشعر المكتوب بالعربية .
2 - حضور ذاكرة المكان في الأعمال الأدبية والفنية العالمية:
من خلال تتبع الأدب العالمي ، وبكل اللغات ، نجد أن ذاكرة المكان كانت حاضرة وبشكل أساسي في بعض الأعمال ، وهنا ، وإن كان المقال لا يسعفنا كي نطرح الكثير من النماذج ، سأكتفي، بالإشارة المقتضبة إلى مبدعين كبيرين في البداية، وهما :
محمود درويش ، كشاعر عربي له مكانة في المنجز الشعري والأدبي الغربي و العالمي ، وهنا نستحضر حضور ذاكرة المكان في أشعاره ، ومن أهم الأمثلة ،حضور فضاء بيروت ( في ملحمة مديح الظل العالي ، وأيضا في مقالته الأدبية النثرية ،ذاكرة للنسيان ).
ثم يمكن نقف ثانيا عند الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ ،وحضور فضاء وأمكنة القاهرة في العديد من أعماله الخالدة.
أما بالنسبة للأدب العالمي ، فلن نجد أحسن من رائعة غابرييل غارسيا ماركيز ،مئة عام من العزلة ، وحضور فضاء قرية " ماكوندو" في ذات الرواية .
3 ـ ذاكرة وفضاء الصويرة في الإبداع ، وهو أساس وموضوع ندوتنا :
وهنا ، لابد أن نميز بين منازل أو وضعيات نؤسس عليها علاقة كاتب أو مبدع معين بالصويرة ، كمدينة وكفضاء ،وبالتالي هذه الوضعيات هي التي ترهن أو على الأقل تؤثر في شكل أو محتوى حضور فضاء الصويرة في أعماله . وهنا يمكن أن نتحدث عن وضعيات : الكاتب المقيم في المدينة ، والكاتب المنتمي للمدينة ،والكاتب العاشق للمدينة كفضاء ملهم ،والكاتب العابر الذي يكتب عن المدينة بشكل عابر . مع إشارة أساسية ، وهي أن الصويرة وغيرها تبقى فضاء مفتوحا للجميع وعلى كل الاحتمالات والتأويلات والتمثلات ،ومن حق الجميع أن يكتب عنه ما شاء ولا لاحتكار فضاء المدينة أو فرض وصاية باسمها على ما يجب أن يكتب عنها، كما يحاول البعض من خلال إصدار أحكام قيمة على بعض ما كتب ( رواية الثعلب الذي يظهر و يختفي ، للقاص الراحل محمد زفاف كنموذج لذاك السجال السابق) .
ورجوعا إلى حضور فضاء الصويرة في الإبداع والكتابة، أختار هنا بعض النماذج بذاتها ،ربما لارتباطي وقربي نسبيا من تلك التجارب أو سياقها . وأبدا هنا بأحد رموز الكتابة في المغرب ، أحد الرموز المرتبطة بالصويرة كفضاء للإبداع ، وهو بالمناسبة دفين الصويرة .وهنا لا تفوتني الفرصة والمناسبة ، والمناسبة شرط ، قبل أن أقول شهادة في حق الكاتب الكبير إدمون عمران المالح ، بكونه كان معلما لنا ولجيل قبلنا ولأجيال أخرى ، إذ علمنا كيف يكون المبدع صادقا ملتزما في صدقه والتزاماته وهويته ، وهنا تحضرني صفة وردت على لسان أو قلم الروائي عبد الكريم الجويطي ،إذ قال عنه ..إدمون عمران هو مربي الكلمات...
وعودة إلى سياق موضوعنا ،أذكر هنا حضور بهاء وغنى وعنفوان فضاء الصويرة في العديد من كتابات وكتب إدمون عمران المالح ، ومنها رواية أيلان أو ليل الحكي ، وكتاب الصويرة المدينة السعيدة Essaouira, Cité Heureuse...
ومن إدمون عمران المالح دفين الصويرة ، نمر إلى نموذج آخر من الكتاب ، وهو هذه المرة من المنتسبين والمنتمين إلى فضائها ، ومن أبنائها الذي أخلصوا لتاريخها وتراثها ، وهو الكاتب حمزة بن ادريس العثماني ،المتوفى سنة 2012، وهنا نستحضر ونشير إلى كتاب ، مدينة تحت رحمة الرياح Une cité sous les Alisées..الصادر سنة 1999، وكتاب موكادور لو تُحكى..Si Mogador m'était contée ،الصادر سنة 2007.
أما بخصوص الأدب المكتوب بالعربية، بحكم أن الراحلين إدمون عمران و حمزة العثماني كانا يكتبان باللغة الفرنسية ، رغم ترجمة الكثير من أعمال إدمون عمران المالح إلى العربية ، أمر الآن إلى كاتب ثالث ، هو من الشعراء الذين عاشوا أو عايشوا الصويرة بشكل مسترسل ،وعشقوا المدينة كفضاء ملهم للإبداع ، وأتحدث هنا عن الشاعر الدكتور محمد الصالحي،وذلك من خلال مقالته الأدبية الرائعة " الصويرة تلوح كباقي الوشم " المنشورة في مجلة العربي عدد 652/2013. ومن أجمل ما التقطته ووقفت عنده في هذه المقالة، لما يقول الصالحي " ...عدت وفي القلب غصة،وجيوبي ملآى بالحنين.. تُذكرك الصويرة لأنك نسيت .." كما يقول :.." الصويرة نائمة على سرير من تاريخ وحنين.."
4 - على سبيل الختم، وفي إطار التعليمة الأولية، حضور فضاء و ذاكرة الصويرة في أعمالي الإبداعية :
مبدئيا ، أشير هنا أن علاقتي بالصويرة ، مدينتي ، كفضاء وكذاكرة ، هي علاقة مركبة ومعقدة جدا، ودائما في سياق المبدأ و المسافة التي سلف ذكرها ،أن الشهادة هنا ، والكلام هنا ، مرتبط بذاتي وبشخصي وبخصوصياتي، ولا أحاصر هذه الشهادة أو التصريحات نظريا ..وهكذا يمكنني أن أتحدث على مجرد احتمالات وسياقات توظيف فضاء وذاكرة الصويرة وفق النص بذاته ولذاته. فهناك احتمال أول ،يكون الحكي فيه مرتبطا بالمدينة بذاتها كفضاء يحتويني ويشمل كينونتي ، وذلك لكوني ترعرعت في فضاءات الصويرة،وعشت في المدينة ،ثم غادرتها لمدة ،ثم عدت إلى الصويرة ،مع احتمال موضوعي آخر أنه من الممكن أن أغادرها بشكل مؤقت أو نهائي في أي لحظة ..فهذا الكم الهائل من التراكم ومن العلاقة/ العلاقات ومن العناصر ومن الأحداث ومن المعطيات ومن العمليات ومن التماسات...التي تشكل علاقتي بفضاء وأمكنة الصويرة ، تجعل هذه العلاقة مركبة ومعقدة، وأحيانا ملتبسة، كما أسلفت ،وهي نفس الوضعية التي تجعلني بالضرورة في منزلتين اثنثين لا حياد بينهما، منزلة الارتباط الذي يطبعه الرضى والوصال، ومنزلة الفراق أو الطلاق الذي يطبعه الجفاء . وهنا تصعب إمكانية التحكم في قياس وقوة وسلطة المنزلتين نظرا للتداخل الذاتي والموضوعي للمكونات، من الاجتماعي إلى الثقافي إلى السياسي إلى التاريخي... إلى باقي التمثلات الاجتماعية التي تحكم وتؤثر على علاقتي بالصويرة وفضاءاتها وأهلها وزوارها ... وهكذا ،ووفق هذا الخليط المزيج المركب من الأحاسيس المعقدة ، تظهر الصويرة في أعمالي ،متشضية وملتبسة وغامضة ومعشوقة وعاشقة ومتنكرة ورافضة وناكرة ومستعصية وجاحدة ...وتصير بذلك معلنة ومضمرة، صريحة وكاذبة ومستثرة ..وتصير متداخلة متشضية ، لتضحى جزء من شخوص نصوصي أو هي الشخوص بذاتها ، ولا يفرق القارئ آنذاك بين الفضاءات والأمكنة و الأشخاص..حينها قد تصير المدينة أنثى أو حبيبة ، وقد تصير ملاذا ،وقد تكون منفى..
وفي الختام ، ونزولا عند رغبة المنظمين ووفق التعليمة الأولية ، أتتبع في غبش بعض ما قلته بشكل غير مضمر عن الصويرة أو أمكنتها ، وهو بالمناسبة ليس ضمن نص قصصي ، بل من خلال مقالات رأي فقط :
"... الصويرة : لا شيء في الأفق غير هذا المدى المالح ..
لا شيء في الأفق يا رياح المدينة غير هذا السرب المتكرر من نوارس لا أمل فيها غير الشكل الهندسي المتوازن في السماء وفوق الماء..
لا شيء في الأفق يا مدينة كانت هنا منذ صبح الأزمنة،كانت هنا قبل تلك التعاريف المنمقة، بلكنة صيغت، كي تأسر فيك المدى حسب رغبات كهان الدورية ونزوات مرتزقة الظرفية..
فلا شئ في الأفق يا موكادور الرياح غير هذا الحد المحيط المخيط من البحر الذي يشتهيك وينشد فيك قصيدة الملح المداب في جرح مدينة كُنتِها أو كانَتكِ."
وفي حالة أو منزلة أخرى أقول :
" ..ولا حتى جرأة الخطوة الخطأ تحملكَ بعيدا رغم كيد الصبوات..
ولا يتعبك عناد تجاعيد ملامحها ومسار المتاهة في أزقة ودروب تراها الآن عارية وقد نهشت فتنتها الرطوبة..
وأنت الذي لم تعم مغامرا ولا مقامرا بما تبقى من قبس الدفء المتردد كي تفكر في فراق جديد..
فهي صارت ذاك المدى الممتد منها إليك حد حتف المسافة..
وهي الخيط الدقيق الرفيع الفاصل بين الضوء واللاضوء..
هي ما تبقى من مشهد لمحة ساطعة أصغر مدة من ومضة برق في ليلة ضلماء..
هي ربما كانت مجرد صورة مركبة لصدى إحساس وملامح رؤية..
أحياء مدينة في حياة قديمة ورسم ووشم وذكرى،وجسد وحيد وشجرة عجوز في غابة معتقلة.
إذن ، هكذا أنهي هذه الحكاية الحكاية القصيرة عن الصويرة ، لتستمر فينا حكاية المدينة. حكاية مدينة تستعصي على الحكي وعلى التعريف ، وتستعصي عليَّ وعلى الوصية ، وعلى الكتابة والوصاية .
( نص المداخلة في إطار ندوة شواطئ الشعر بالصويرة ، التي تنظمها دار الشعر .)
الصويرة ، دار الصويري : 12 غشت 2024 .