من المقولات الشهيرة التي توارثها المسرح العالمي في علاقة بدوره في المجتمع، "أعطني خبزا ومسرحاً أعطيك شعباً عظيماً"، وهذا ما قام به طلبة لعلم الاجتماع، عندما توجوا تخرجهم بمسرحية تحكي مسار أستاذهم منذ طفولته وصولا إلى الحرم الجامعي، وهذا جوهر شعبتهم ودراستهم، وقد جسدوا أساس العلم الذي عشقوه وبدلو كل شيء من أجله، هو العلم الذي يتمحور حول دراسة الحياة الاجتماعية للبشر والذي يشكل بالنسبة لهم أساس مجتمع سليم ومتطور، لم يحاول هؤلاء الطلاب الابتعاد عن محيطهم القريب، حيث ركزوا حول حرمهم الجامعي، ابتداء بقدوتهم "أستاذهم"، الذي فككوا حياته بنظرة علمية ودرسوا تفاصيلها في قالب مسرحي، وهذا ما ذكرني أيضا بمقولة الفيلسوف والمسرحى الفرنسى (فولتير)، الذى قال: "في المسرح وحده تجتمع الأمة ويتكون فكر الشباب وذوقه... إنه مدرسة دائمة لتعلم الفضيلة".
لقد تشرفت بلقاء إحدى الطالبات اللواتي أشرفن على هذا العمل "زكية سحنون"، والتي قامت بإخراج المسرحية، ونجحت في تلقين زميلاتها أبجديات التمثيل، وهي المبدعة المميزة، الحاصلة على الجائزة الأولى في المسرح بالعربية والجائزة الأولى للمسرح بالفرنسية، بالإضافة لشهادة من بيلاروسيا على منهج مسرح قسطنطين ستانيسلافسكي، وتحكي زكية أنها عاشقة للمسرح منذ الطفولة، إلى جانب شغفها الكبير بعلم الاجتماع.
تقول زكية إن الجدلية القائمة بين المسرح والمجتمع ليست حديثة، وإنما تعود إلى ماقبل اتبثاق المسرح بشكله الحالي، حيث حاول الإنسان أن يصنع لنفسه لغة يعبر بها عن ما يجوب في دواخله، حينها ابتكر لنفسه رقصات عشوائية لكن تطورت ليصبح لها مغزى، بعدها أصبحت هذه الرقصات طقسا مقدسا تبجيلا للآلهة، وقد تداخلت طُرق الإنسان ليُشرك نفسه في التعبيرات المجتمعية، من خلال هذه الرقصات التي أصبحت فيما بعد فنا توارثته الأجيال، وخلدته أعمال أسطورية دشنت الخطوات الأولى للمسرح، ليكون الناطق الإبداعي باسم البشرية.
في ذات السياق أتمت زكية كلامها بالتركيز على أن المسرح ارتبط منذ ولادته بالمجتمع، وتطور مع تغير العصور والحضارات، ففي البداية كانت نشأته من رحم الدين ومحكياته الأسطورية، وبالتدريج امتزج مع الحياة الاجتماعية اليومية، فلا أحد يستطيع أن ينكر أثر المسرح باعتباره واحدا من منابر الفنون والثقافة، باعتباره وسيطا إبداعيا لطرح انشغالات المجتمع، فالعلاقة بين المسرح والمجتمع علاقة قديمة قدم المسرح نفسه، وخصوصا في العصر اليوناني، فللمسرح دور فعال في طرح قضايا وإشكاليات المجتمع، فالمسرح ليس مجرد وسيلة ترفيهية بل هو مؤسسة تثقيفية وتوعوية، وكل العاملين في الحقل المسرحي من كتاب ونقاد ومخرجين، من أولى دروس وعيهم الإيمان بأن له دور المصلح الاجتماعي، وبالتأكيد أن الدور الاجتماعي لأعمالهم المسرحية لا يتنافى مطلقا مع النواحي الجمالية، سواء كان الجمال بصريا أو سمعيا أو فكريا، فالمسرح رسالة وليس مجرد شعار، إنه هدف وقضية.
تختم سحنون زكية كلامها، بأنها وجدت فعلا صعوبة في البداية، لأن زميلاتها لم يفكرن بتاتا أنهن سينجحن في أداء أدوارهن في هاته المسرحية، لكنهن شعرن بالفخر عندما وطأت أقدامهن أرض خشبة المسرح، وحكوا لها أنهم لم يتوقعوا هذا النجاح المبهر، ولم يفكروا من قبل أن هناك علاقة بين المسرح وعلم الاجتماع، لكن تأكدو بالملموس أن علم الاجتماع في الأساس نوع من الفن أيضا، تتمنى زكية أن يتم تسليط الضوء على هذه الثنائية كنموذج، وأن يصبح المسرح مادة من المواد التي تدرس في جميع الجامعات، لأن الهدف من العلوم ليس فقط العمل أو التعلم بل أيضا رسالة و هذه الرسالة لن تصل إلا عن طريق الفن، والمسرح بدون جدال هو أب الفنون.